الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
اللا قناعة

بواسطة azzaman

اللا قناعة

محمد زكي ابراهيم

 

كانت السعادة في نظر المتصوفة القدماء تقوم على مبدأ القناعة بما في اليد، والاكتفاء بما هو موجود على الأرض، والزهد فيما سوى ذلك من متاع زائل. ففي رأيهم، اللهاث وراء المادة والجري خلف الشهوات أمران مكروهان، لا يورثان إلا الحزن والمشقة. فلا نفع من عرض زائل، أو متاع زائف، أو دنيا فانية يحرص عليها الناس في كل مكان من هذا العالم.

 تلقف العراقيون هذه الفكرة منذ قرون بعيدة، واتخذوها وسيلة للعيش بسلام. انصرفوا عن العمل إلا ما قل، وعن الجمال إلا ما ندر، وعن الأناقة إلا ما ستر.

  رغبوا عن التطلع إلى حياة أفضل، واكتفوا بالفتات، فأصبحت مدنهم في غاية البشاعة، وحياتهم في منتهى السوء. ومع ذلك، كانوا يجدون في هذا سعادة وبهجة، ويطلقون عليه بفخر وزهو: “الزمن الجميل”.

 ومع أن ملايين الناس في هذه البلاد لم يجربوا التصوف أو يعتنقوا عقيدته في يوم من الأيام، إلا أنهم تشربوا هذه الفكرة حتى باتوا ينصاعون لمقولاتها دون وعي.

 فهم متصوفون وإن لم ينتظموا في طريقة، أو ينخرطوا في جماعة، أو يرتدوا زي الدراويش. وربما ورثوا هذا عن زمن مضى، إذ تلجئ الظروف الناس أحياناً إلى انتهاج طريقة ما على كراهة ونفور منهم.

 لكن العالم يتغير كل يوم، والقناعة لم تعد تلائم هذا العصر أو تناسب أذواق أبنائه. فمع ما تحقق للبشرية من إنجازات كانت إلى وقت قريب حلماً من الأحلام ومعجزة من المعجزات، فإن الوقوف عندها يعني الركود والتخلف والعجز عن مسايرة العصر. اللا قناعة، في جوهرها، تعني الرغبة الدائمة في التغيير، والعمل الجاد من أجل التقدم.

 وقد تكون من موارد الطمع، لكنها تسير بالمجتمع نحو الكمال. فكل شيء جميل اليوم سيكون ناتئاً غداً، وكل ما هو مبهر الآن سيصبح باهتاً في المستقبل.

 ما حققته البشرية من قفزات هائلة في العقود الأخيرة عظيم، والمجتمعات العالمية تتسابق للحصول على نصيب منه، لكنه لن يبقى كذلك بعد سنوات قليلة. الوقوف عنده أو الاقتصار عليه أمر محزن.

العزوف عن القناعة يعني الرغبة في إحداث ثورة ثقافية تنقل المجتمع من حال إلى حال، وتمنحه ما يتوق إليه من مغريات، ليس فقط بالحصول على منتجات الحضارة الحديثة، بل بالمشاركة في صنع هذه الحضارة والإسهام في تطوير الحياة. حينما تكون من بناة الواقع وقادة التغيير، سيقف الآخرون لك احتراماً، ولن يجرؤوا على العبث بك كما كانوا يفعلون من قبل.

الانقلاب على القناعة يعني إحداث تنمية حقيقية تمنح المواطنين حياة جميلة خالية من الهموم والأوجاع، فارغة من الكروب والمنغصات، وتجعل لهم دوراً في صنع التاريخ، مثل أي شعب متقدم آخر في هذا العالم.

 أما الاكتفاء بموقع المتفرج، فليس له ما يبرره سوى التخاذل والتراجع والانكفاء على الذات، وهذا ليس الهدف من خلق الإنسان الذي أنيطت به عمارة الأرض وإرساء أسس السلام والمحبة بين العباد.

 لهذا الغرض، فإن الأخذ من الحضارة المادية بطرف ومن المنطلقات الروحية بطرف آخر من شروط إحداث توازن عقلي وفكري ووجداني. هذا هو السبيل الأمثل ليغادر بلد من بلدان العالم الثالث، مثل العراق، موقعه السابق إلى الصفوف الأمامية، ويحتل مكانته الطبيعية في الصدارة، كما كان يفعل في عصور غابرة. فيصبح نقطة إشعاع مضيئة في المنطقة والعالم. وبدون ذلك، لا خلاص له من الفناء أو الذوبان في الأمم الأخرى.

 


مشاهدات 55
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/06/21 - 1:36 PM
آخر تحديث 2025/07/01 - 7:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 244 الشهر 244 الكلي 11153856
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير