في مضيف صباح اللامي.. من عمان إلى مشروع البزاز الإنساني
رائد فؤاد العبودي
في عمّان، المدينة التي احتضنت العراقيين بكرم أردني أصيل وحنان شعب منح الجالية العراقية مكانة استثنائية، وميّزها عن غيرها باهتمام ورعاية من مختلف أطياف المجتمع الأردني، لم تكن الحياة سهلة على من اضطرتهم المآسي إلى الرحيل عن وطنهم. فقد غدا المنفى الأردني، رغم دفئه الإنساني الظاهر، ساحة اختبار يومي لصبر العراقيين وعزيمتهم، وهم عالقون بين خيارين مرّين: البقاء في منفى مؤقت يشبه الانتظار الأبدي، أو العودة القسرية إلى وطن تمزقه الحروب، وتحكمه أنظمة لا تجيد سوى صناعة الخوف والموت.
كنا نعيش في ظل سؤالٍ كبير: أين الوطن؟
هل هو العراق الذي خلفناه تحت نير القهر؟
أم هذا المكان الذي نحاول أن نعيش فيه دون أن نتجذر؟ أم أن الوطن صار مجرد ذاكرة نعلّقها فوق جدار القلب ، ونربّي أبناءنا على الحنين إليه، لا على العيش فيه؟ في تلك اللحظات الحائرة، حين تكون بعيدًا عن أهلك، دون سند عائلي أو قريب تتكئ عليه، يصبح لبعض الوجوه طعم الوطن، ولبعض البيوت رائحة الأمهات. وهنا يبرز اسم صباح اللامي، لا كصحفي من الجيل الذهبي المؤسس فقط، بل كأب وراعٍ وسندٍ لجالية عراقية كانت بأمسّ الحاجة إلى من يمد يده ليعين ومن يفتح قلبه ليحتضن . كان بيت صباح اللامي في عمّان بيتًا عراقيًا بالمعنى العميق للكلمة، مضيفًا جنوبيًا مشرّع الأبواب، تفوح منه رائحة الهيل والقهوة، وتخفق فيه روائح الطيب والكرم. كان بيته أشبه بمجلس عامر، حيث تُحلّ فيه مشاكل اجتماعية، وتُناقش فيه قضايا ثقافية، وتُروى فيه القصص، ويُكرّم فيه الضيف كأنه سيد المكان.
كان صباح اللامي مثل شيخ عشيرة لا يحمل فقط عنواناً اجتماعياً ، بل يحمل قلبًا كبيرًا، وروحًا من تلك الأرواح العراقية التي وُلدت لتُسعف، لا لتتفرج. وكان إلى جانبه “أم سيف”، زوجته النبيلة، التي أضفت على البيت لمسة من حنان الأمهات وكرم النساء العراقيات… فكانت صينيتها العامرة جزءًا من تقاليد ذلك المضيف، ليشعر الزائر للحظة أنه عاد إلى حضن أمه.
ولم يكن صباح اللامي وحده في أداء هذا الدور، فقد جند أبناءه، وعلى رأسهم سيف، ليكونوا امتدادًا لرسالته. كان سيف نموذجًا للشاب الذي تعلّم من أبيه أن الكرم ليس فعلاً للمناسبات، بل منهج حياة.
مآسي الغربة
وفي واحدة من مآسي الغربة، وبينما كنا نحاول جاهدين أن نوفر مصدر دخل جانبي نخفف به عن أنفسنا وطأة الغربة، ونمد به يد العون لعوائلنا المحاصرة داخل الوطن، وجدتُ نفسي خلف قضبان التوقيف، بتهمة العمل دون ترخيص. كانت لحظة عصيّة لا تُنسى، قد تفضي إلى ترحيلي القسري إلى العراق، وكنت أعلم يقينًا أن العودة في تلك الأيام لم تكن تعني سوى أمر واحد: الموت أو الإعدام على الجانب الآخر من الحدود.
حينها، تحرك العراقيون في عمّان بسرعة، وأرسلوا عشرات الفاكسات إلى مفوضية اللاجئين، يناشدونها التدخل العاجل لإنقاذي قبل أن يُنفذ القرار حسب نصوص القانون. وبالفعل، تدخلت المفوضية في اللحظة الأخيرة، لتمنع ترحيلي، لكن بقيت خطوة واحدة تفصلني عن الحرية: أن أجد كفيلًا يكفلني ويضمن خروجي من التوقيف.
وحين سألني الضابط:
هل لديك كفيل؟
أجبت بكلمات ثقيلة :- لا… لا أملك كفيلًا.
وإذا بصوت يأتي من الخلف، يحمل من الحزم ما يكفي ليبدّد خوفي، ومن الحنان ما يكفي ليشعرني بالأمان :
ـ موجود، حضرة الضابط!
كان ذلك صوت سيف صباح اللامي الذي لم يأتِ وحده، بل بصحبة شاب فلسطيني من منطقتنا في حيّ الصحفيين في الغزالية، شاب من أولئك الذين أنجبتهم فلسطين على أرض العراق ، وكان يحمل الجنسية الأردنية. جاء وتكفّل بي أمام القانون، دون تردد.
قال الضابط:
ـ هذه مسؤولية، وإن لم يحضر ستُحاسب!
فردّ الشاب بكل ثقة:
ـ نعم أستاذ، مستعد.
هكذا، بكل بساطة… قدّموا جميلهم وذهبوا . فعلوا ذلك دون استعراض، دون انتظار شكر، كأنهم يمارسون طبيعتهم، لا فضلًا منهم.
إنني أكتب اليوم لا لأروي حادثة شخصية، بل لأرد جزءًا من جميل أولئك الذين ظلّوا يُضيئون لي الطريق كلما خفُت نوره .. صباح اللامي، بيته، أسرته، مواقفه، وكل بيت عراقي احتضن غريبًا، كل يد امتدت في الغربة دون انتظار مقابل… هم عنوان وفائنا الدائم .
في هذه السلسلة من حلقات الوفاء التي بدأتها بمقال ( في مدرسة البزاز: حين أصبح للكلمة جناحان)، سأكتب مقالات أردّ بها شيئًا من جميل من وقف إلى جانبي، وساندني، وجاد بعطائه في لحظات الشدة. عرفانًا بالجميل لمن لم يترددوا في مدّ يد العون، ووفاءً لمن كانوا نورًا في عتمة الغربة.
سلسلة الوفاء
سأذكرهم واحدًا تلو الآخر، ليزداد الخير بالذكر، ويكبر أثره بين الناس، فالخير إن ذُكر دام، وإن نُشر أثمر.
ولا تكتمل سلسلة الوفاء إلا بذكر الرجل الذي شكّل، لكثيرين منا، خيمة كرامة وفكرة وطن : الدكتور سعد البزاز .
فالدكتور البزاز لم يكن راية ثقافية وناشر وصاحب مؤسسة إعلامية وحسب ، بل كان مشروعًا إنسانيًا في زمن عزّ فيه الإنسان. ورائد نهضة ثقافية، فتح مؤسساته لتكون منابر للعراقيين، وفتح قلبه ليحتضن المثقفين والناجين من جحيم الطغيان، ومنح الجميع مساحة نقية للتنفس وللحلم وللتعافي .
لم يكتب الدكتور البزاز يومًا عن نفسه، لكنه كتبنا كلّنا. لم يطلب امتنانًا، لكنه علّمنا كيف يكون الامتنان سلوكًا لا كلمات ..أكتب اليوم لأقول: ما زال هناك رجال يصنعون الحب حتى في المنافي.
وما زال هناك وطن اسمه سعد البزاز منه تخرج كل مضائِفنا .