الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العشق نبوءة الوجود ونغمة الحياة


العشق نبوءة الوجود ونغمة الحياة

سناء يحفوفي

 

يشرق النّور من رحم الغياب ويعبث بما وراء الحواس، لا يكتفي بالكشف عن المرئيّ، فينساب فيه الزّمن كوَتَرٍ شفيفٍ يترقبُّ اللّحظة التي ستفتح فيها الرّوح أبوابها، حيث لا يدَ ولا عينَ تمسك بالحقيقة، إلا أنّ الرّؤيا تُشرق في صمتٍ، معلنةً عن حقيقةٍ متواريةٍ بين نبضٍ وهمسٍ، لا يقرؤها إلا من غاص في وهج الأسئلة الأولى.

يتدفّق الحلم طيفًا، يتصاعد مع أنغام الحياة من مقامات اللّغة، وتتعاقب كما لو أنّها أولى أبواب الكشف؛ تسافر بنا في دنيا الخلود ثوانٍ، حاملةً القلب والرّوح معها، لتغدو إشراقةً تستوطن السّكون في مرايا البلّور، تتدفقّ رقراقةً ببهاءٍ. وكل نبضة في قصيدة »أطياف الحلم« تتحوّل إلى منزلاً من منازل السّائرين خلف مدارات اللّغة، فيتهيّأ بها الكِيان أنفاسًا من ذِكْرٍ شفيفٍ يبني له في الرّوح وطنًا من حرف، لتتكشّف دوائر الوجود في إشراقٍ يتوالى على مدارج الصّحو.

تتصاعد اللّغة في مستوياتها العليا: تترك القارئ في مواجهة ذاته، تستنهض داخله القدرة على القراءة بين ما يُقال أو ما يُهمس في الظّل، ليتكوّن الوَتَرُ التّائه. كلّ رمزٍ، وكلّ ضوءٍ مستترٍ في ثنايا النّبرة، هو دعوةٌ صامتةٌ للمس الصّدى الذي يتركه الغياب في النّفس: لمس تلك المسافة بين الذّات والظلّ، بين الحلم والطّيف. همسٌ لا يسمعه إلا من يدرك أنّ الحلم يقيم بيتَه في الخُلد. هنا، يتكشّف للوعي ما يربط الرّوح بالفضاء، والفكرة بالوجود، والوجدان بلا نهائيّة الكون.

وبين ثنايا الطّيف، يرتعش الصّوت ويُطلق إرهاصات شاعرٍ، بينما يتستّر في الخفاء أطيافٍ الأماني؛ إذ تتماهى والضّوء، فتتفتح مقامات العشق المتمرّد. مع كل خطوة يتبدّى فيها روح الكِيان، والأفق مرقاة الرّوح يفتح بابًا على الأمد، يُشعل في النّفس صلاةً من وجد. ليصبح الطّيف حلمًا ومرايا شوقٍ، ومفاتيح للغيب، تفيض في سرّها أمام صفاء الكون للمتعبّد.

وتر خفي

ما يقدّمه نصّ «أطياف الحلم» هو صعودٌ على وترٍ خفيّ يمتدّ بين الغياب والحضور. لتتحوّل الأطياف إلى مرايا منبثقةً من الأعماق تتجاوز المرئيّ، وتكشف عن تجلياتٍ دقيقةٍ للحلم والرّوح والكيان. حينها يشعر القارئُ بامتداد الزّمن وامتداد الذّات، وبأنّ الطّيف والحلم واحدٌ، نتذوّقه مع كلِّ نبضةٍ شعريّةٍ متدفّقة، تهبنا صفاءه.

 الطيف الأول: في فضاء يموج خلف الظّلال، ومن رحم الغياب يظهر الحلم كيانًا مستقلًا، يتنفّس داخل الفراغ، يسير على خيوطٍ من وهمٍ صافٍ، يترك أثره في المدى، فينبعث رجع نغمةٍ ممتدةٍ في العلا. كل خطوة تقود الرّوح إلى مسار جديد، وانفتاح من القلب يمتدّ بلا انغلاق، والمرايا تعيد خلقه، فتتكشّف طبقات الوجود في صمتٍ مستمر.

 » هو كائِنٌ يَتَنَفَّسُ في الظِّلالِ،

يَمشي على خُيوطٍ مِن وَهمٍ صافٍ،

ويُخفِي مَلامِحَهُ في مَرايا السَّرابِ،

لا يُمْسَكُ باليَدِ

لَكِنَّهُ يَترُكُ في الأصابِعِ

أثَرَ النَّدى.

يَعبُرُ بلا خُطى

ويَترُكُ في الهَواءِ رَجْعَ نَغْمَةٍ لا تَنْطَفِئُ.

هو البَابُ الَّذي لا يَنْغَلِقُ، «

الحركة هنا تكشف عن حضورٍ مستترٍ: أنفاسٌ خفيّة تسري بين الفراغات، ونبضٌ داخليٌّ ينسج بالخفاء إشارات علويّة. بين هذه النّبضات يتكشف العمق المكنون: حضورٌ يتجاوز الحواس، ينسج العلاقة بين ما يظهر وما يتوارى، ويجعل الحلم شعلةً من ضياءٍ، تحمل داخلها مساراتٍ متعددةٍ لكل أثر.

 »والمِرْآةُ الَّتي لا تَعكِسُ شَيئًا

إلّا لِتُعيدَ خَلْقَهُ مِن جَديدٍ.

كُلَّما ظَنَنتُهُ بَعيدًا

انفَتَحَ مِن قَلبِهِ بابٌ آخَرُ،

حَتّى إذا أدرَكتُهُ

أدرَكتُ أنَّ اسمَهُ… الحُلْم « .

في هذه الفضاءات، يصبح الحلم قوّةً قائمةً بذاتها، ودعوةً للوعي والتمهّل، لتتجلّى حقيقة الوجود في صمت الكشف المستمر. كل نافذة تُفتح هي رؤية وتجربة تتسرّب إلى الرّوح، فتُعيد ترتيب الحضور في القلب قبل العين، وتترك أثرًا ممتدًا من الفهم الذي يتخطى حدود النّص المباشر، حيث ينسج الوتر الخفيّ صلةً بين الرّوح والطّيف.

ينابيع متجددة

الطّيف الثاني: بين الصّمت والصّدى ينبثق أوّلَ الطَّيفِ، مساحة احتضانٍ رمزيّ يتأرجح بين الانفعال والصّفاء. هنا، يتبدّى حضور الحبيبة منذ الخطفة الأولى: شعلةٌ توقظ اللّيل المرتجف وتعيد صياغة مساره، كِيانٌ يبدّد الرّماد ويفتح في الجسد ينابيع يقظةٍ متجددةٍ. الاسم نفسه يتحوّل إلى نسغٍ حيّ، يهب الرّوح خفقة في العروق، ويجعلها مسرحًا لانبعاثات لا متناهية. وفي هذا المقام، تبدو الحبيبة للشّاعر مركز الكشف: لتبدو كالشّرارة التي تكسر صمت البرد، والومضة التي تمنح اللّيل سرّ النّهوض.

 »رَأيتُكِ أوّلَ الطَّيفِ،

شَرارَةً تَتَوَهَّجُ في ليلٍ يَرتَجِفُ مِنَ البَرْدِ.

كُنتِ لهبًا يَلْمَعُ بلا احْتِراقٍ،

تَزيحينَ عن الرِّمادِ حِجابَهُ،

وتَزرَعِينَ في العُرُوقِ يَقْظَةً

تَتَجَدَّدُ كُلَّمَا هَبَّت نَسْمَةُ اسْمِكِ « .

يتصاعد حضور الأنثى أكثر حين تتحرّك العلامات: الشَّعر الذي يتماوج كأثرٍ مكتوم، والعينان اللّتان تحملان اختراقًا للصّمت فتشطران الظّلام.

هنا، يضع الشّاعر فعل الحبيبة في مقام التحوّل: من السّكون إلى الحركة، من الانطفاء إلى التوهّج ومن انغلاق العتمة إلى انبلاج الفجر؛ إذ، يتبدّى انبعاثًا روحيًا ينهض بالكيان من عتمة الأوهام، ليتحوّل النّص ذاته إلى مشهد ولادة ثانية.

 »كان شَعرُكِ يَرْتَقِصُ كالسِّرِّ في اللَّيلِ،

وعَيْنَاكِ شعاعانِ يشقان صمتَ الظلامِ،

فَإذا بي أَنهَضُ كالأُفُقِ

حِينَ يَسلِّمُ مَفاتيحَهُ لِلْفَجْرِ «.

تتكشف هنا، تجربةٍ وجوديّةٍ تتجاوز الملموس، تجربةٌ حيّةٌ تتفاعل فيها الحبيبة مع وعي الشّاعر في فضاءٍ حيٍّ من الانبعاث الرّوحي. كل طيفٍ من حضورها يفتح أفقًا للرّوح، وكل أثر يتركه الاسم يذكّر بأن التّجربة الشّعريّة ليست مجرد رؤية، بل شاهدة حيّة على انعكاسات النّفس وجموحها رغم الظّلام؛ فنرى الحبيبة حاملة معها شحنةً من اليقظة المتجدّدة. لتصبح كل حركةٍ توقيعًا، وكل وهج في النّص فرصة لإدراك طبقات الوجود، لتتّحد الحركة بين الحضور والاحتجاب في فضاء متكامل.

الطيف الثالث: يتبدّى الحضور الأخير بوصفه اكتمالًا، فلا يعود الطّيف شذرةً ولا حتى ومضةً؛ إذ يظهر ككِيانٍ جامعٍ يحتضن الظّلال ويذيبها في صدره العاشق. هنا، تشرق الحبيبة جوهرًا شفيفًا، لا تُقرأ لمجرّد ملامحها أو أوصافها، بل في اتّساعها الرّمزي: هي البداية وهي النّهاية، والمنبع والمصبّ، والغناء حين يصبح كونًا يتّسع لكل المعاني. في لحظة كهذه، يتكثّف النّص ليغدو حالة هيمان واتّحاد؛ وتصبح الأنثى مدار الانبثاق كله، والحقيقة التي تنسج الوجود من العدم، وتطلّ على أسرار العالم بإيقاعات خطواتها، وينسدل السّتار على رؤية جديدة.

» وَأَخِيرًا تَجَلَّيْتِ،

كَأَنَّكِ الطَّيْفُ الجَامِعُ،

الَّذِي يُذِيبُ فِي صَدْرِهِ

جَمِيعَ الظِّلَالِ.

كُنتِ البِدَايَةَ وَالنّهاية،

الأَصْلَ وَالمَآلَ،

الأُغْنِيَةَ حِينَ تَصِيرُ كَوْنًا،

وَالحُلْمَ حِينَ يَصِيرُ يَقِينًا لا يُفَسَّرُ «

عند هذا الفيض، تُفتح بوابةً جديدةً: المرايا كلّها تتداعى للتّسليم بمرآة واحدة، مرآة تنقل الذّات إلى مقام أسمى وأصفى. فلا يعود الباب الأخير بابًا عاديًا؛ إذ يتحوّل إلى انهمارات من الرّؤى، فاتحًا عتبةً جديدةً، بابًا بلا بداية أو نهاية. في هذا المقام، يعلو النّص الشّعري على ذاته، مقدّمًا تجربة عشقٍ تتحوّل إلى مرآة للوجود، تتداخل فيها النّظرة إلى العالم، تتقاطع البداية مع النّهاية في وهجٍ واحدٍ لا يكتمل إلا بالاتحاد، ويبقى مفتوحًا على المطلق.

 »كُنتِ المَرَايَا كُلَّهَا،

لَكِنَّهَا مِرْآةٌ وَاحِدَةٌ،

تَفْتَحُ لِلرُّوحِ بَابَهَا الأَخِيرَ،

بَابًا لا بِدَايَةَ لَهُ وَلا اِنْتِهَاءَ. «

ملامسة الأطياف والارتقاء بها في دنيا الأحلام:

منذ لحظة الاستيطان الدّاخلي، لم تعد العلاقة بين الأنا والآخر قابلة للانفصال. هنا، تطرح الأسئلة الكبرى: من يحلم بمن؟ أين تتلاقى حدود الحلم؟ حتى تبدو الحبيبة امتدادًا داخليًا، يذوب الواحد في الآخر ويستقر في أفقٍ كونيٍّ واحد.

» وَمُنذُ أَن اسْتَوْطَنَتْ فِي دَاخِلِي،

لَم أَعُدْ أَعْرِفُ:

أَأَنَا الَّذِي يَحْلُمُ بِكِ،

أَمْ أَنَّكِ أَنْتِ الَّتِي تَحْلُمِينَ بِي،

أَمْ أَنَّا مَعًا «

في هذا التلاقي، ينسلّ النّصّ إلى أفقٍ صوفيّ، حيث الحلم فضاءً تتقاطع فيه الرّؤى. إنّه مقام التّلاشي في وحدة الظلّ: لا حضور منفصل، ولا غياب كامل، بل امتداد ينشر نفسه في فضاء بلا حدود. بهذا التحوّل، ينقل الشّاعر التّجربة من إطار العلاقة الثّنائية إلى فضاء الوجود بأسره، ليتحوّل العاشقان إلى ظلٍّ كونيّ، يرمز إلى وحدة الكون والإنسان، الذّات والآخر، الحلم واليقين.

ثمّ يأتي النّصّ في خاتمته بابًا للتأمل المفتوح: الظلّ الممتد علامة للدّيمومة. فالمحبوبة هنا، لم تعد أنثى متخيّلة، بل حالة نورانية، وكينونة تتجاوز المحدود إلى اللّامحدود. إنها التجربة الشّعرية وقد بلغت مقامها الأسمى: مقام الامّحاء الكلّيّ. بهذا، يعلو النص الشّعري على ذاته، مقدمًا تجربة عشق تتحوّل إلى مرآة للوجود، موسيقى تتردّد في قلب الخليقة، ويظلّ الوتر الخفيّ خيطًا من النّور يربط بين الغياب والحضور بين الحلم واليقظة، فيبقى متوهّجًا كجمرٍ تحت الرّماد.

»لاشَيْءَ سِوَى ظِلٍّ

يَمْتَدُّ فِي فَضَاءِ

لا حُدُودَ لَهُ؟ «

هكذا يتجلّى العشق في أسمى صوره، يصدر نبوءةً من قلب الوجود، وكأنها حكمٌ أزليٌّ نزل من حكمة الغيب. والظلّ الممتد هو ختم الرّحلة، وعلامة الانصهار في الكلّ. هكذا، يصير العاشق والمعشوق إشراقةً واحدةً، نورًا على نورٍ، وموسيقى تتردّد في قلب الخليقة. ومن يستشعر هذه اللّحظة، يلامسه سرّ العشق الإلهيّ، حيث يتساوى الأزل بالأمد، وتبقى للكلمة الحكم الخالد: الحبّ طريق الوجود، وسرّ الوجود هو الحبّ.

والعشق نبوءةٌ، من خلاله تتكشّف الأبواب، ويغدو نغمةً واحدةً في لحن الأبد.

 

 

 

 


مشاهدات 32
الكاتب سناء يحفوفي
أضيف 2025/12/05 - 3:39 PM
آخر تحديث 2025/12/06 - 2:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 101 الشهر 3860 الكلي 12787765
الوقت الآن
السبت 2025/12/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير