الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
شريحة المتقاعدين ظلم وبؤس

بواسطة azzaman

همسات ساخنة... ومضات هادئة

شريحة المتقاعدين ظلم وبؤس

لويس إقليمس

 

مع تقدم الإنسان في العمر بعد أن أعياه الشقاء والتعب في الطفولة والدراسة والوظيفة والعمل، ربما في مواقع عديدة مختلفة في الأداء والإنتاج ونمط الوظيفة، ينتظر اليوم الذي يرتاح فيه قليلاً. هذا لو تسنى له ذلك بسبب صعوبة المعيشة والعوائق التي تديم له نعمة الراحة المطلوبة بعد سنين شاقة وشقية أحيانًا. فمن حق أي بشرٍ أن يفكر في شكل الراحة التي يبحث عنها. فهذه تصبح من بين حقوقه الإنسانية والجسدية والفكرية بعد الذي زرعَه وانتظرَ حصادَه في خريف أيامه. إذ لا بدّ أن يأتي اليوم الذي تتوقف فيه عجلةُ حركته ويخفت نشاطُه ويقلّ أداؤُه وإنتاجه في انتظار الرحيل ولقاء ربّه بسريرةٍ حسنة ووجهٍ سافر وراحة بال برضا السماء. فالإنسان إنْ هو إلاّ مخلوقٌ من لحمٍ ودمٍ ومن مشاعر وحركات وطاقات وقدرات محدودة مع التقدم في السنّ واعتلاء الشيب شعرَه وضعف بدنه وبصره على حدٍّ سواء. أللّهمّ إلا من بصيرته وعقله وحكمته في الحكم على ما حوله لحين وداعهِ عالمَ المادة القصير في العمر مقارنةً بعمر الآخرة غير المتناهي. ولعلَّ من أجمل ما قاله الفنان الراحل شارل شابلن: « لا شيء يدوم للأبد في هذا العالم، ولا حتى مشاكلُنا». وتلكم حكمة للاستفادة. ف»جميعُنا سيّاح وإنما الحياة مجرّد رحلة، لذلك على الإنسان أن يعيش يومَه، فغدًا قد يكون أو لا يكون» .

 إنّ كونَ أي إنسان يصل إلى سنّ متقدّم في حياته، يُملي عليه أن يزيد التفكير بنفسه وسعادته وراحته أكثر من أيّ وقت مضى، لو أُتيحَ له ذلك. فهذا من حقه. ويشهد لهذا، العقلاءُ وأصحاب الخبرة في الحياة. وهي فرصة متاحة له أيضًا كي يتذكر سالف الأيام التي أخطأ في جانبٍ منها أو  فشل في استغلال أوقاتها لصالح سعادته وراحته لأيّ سببٍ من الأسباب، قد تكون بسبب إيلائِه وقتًا أفضل من أجل سعادة شريكة حياته أو أحبائه من ذوي القربى أو الأبناء والأحفاد على حدّ سواء. أو قد يكون الزمن قد عاكسه وتقاطع مع طموحاته وتمنياته بوظيفة أفضل أو في التأسيس لأسرة مثالية أو بالفشل في اختيار شريكة حياة أفضل وأجمل وأكثر جذبًا في فكرها وثقافتها وعلمها وأدائها واحترامها له ولمَن حواليه وفي حسن تدبيرها لمنزلها وطريقة مداراة زوجها والاهتمام به في حاجاته وراحته وملبسه ومأكله وما سواه.

فترة إنتقالية

لذا عند بلوغ الإنسان سنّ التقاعد خاصةً، إذا كان عاملاً في وظيفة خاصة أو عامة، يُنصح في هذه الفترة «الانتقالية»، كما يطيب للبعض تسميتها، أن يترك كلّ أسباب الخيبة والحسرة والآلام التي مرّت في مسيرة حياته العملية الشاقة التي لا يمكن أن يخرج من حبائلها أيُّ كائنٍ بشريّ مهما علا وسما وتخيّلَ واستكبر. فهناك دومًا مواقف سلبية وشاذة وخائبة في حياة الكائن البشري، أيًا كان شخصُه أو قدرتُه أو كفاءتُه أو وظيفتُه أو قربه من أصحاب السعادة والسيادة والعشيرة والعائلة والمؤسسة وما سواها جميعًا. فهذه دروسٌ تستحق الدراسة والتحليل واستنباط العبر من أجل غدٍ أفضل للأبناء والأحفاد والبشر والمجتمعات. فهي خير الدروس في علوم الاجتماع والنفس والفلسفة. فما كان قاسيًا ومؤلمًا وفاشلاً بالأمس لظروف غير مؤهلة في حياة الإنسان، قد تصبح نوافذَ حسنة الخبرة وبابًا من أبواب السعادة والراحة وتعميم الفائدة في حقبة شيخوخة العمر.

بالتأكيد، وللمزيد من إضافة أشكالٍ أخرى من راحة النفس والجسد والفكر على مَن عاكسه الزمن في مرحلة من حياته، تظهر على المتقدّم في السنّ علاماتٌ أخرى أكثر هدوءً ورصانة بتركه جانبًا كلَّ ما يثارُ حوله من خلافات ومشاحنات ووسائل لخلق مشاكل غير مقبولة. فالمفترَض به أن يتجه في البحث عن طمأنينة مقبولة في كلّ شيء وأيّ شيء. فما اصابه من نكدٍ وحسرةٍ وتعبٍ وشقاءٍ وكرٍّ وفرٍّ من النجاح والفشل وسرقة جهودٍ وأتعابٍ، كفيلٌ بمنحه هذه الفرصة من راحة البال والبحث عمّا يستسيغُه من سعادة مأمولة بنوعٍ جديد وشكل آخر يختلف عمّا صادفه زمنَ المراهقة والشباب وفي فترات الدراسة والعمل والإنتاج والبحث عن الرزق الحلال وتأمين القوت اليومي له ولأسرته وذوي القربى. فهو يدرك تمامًا أنّ ما عاشه من لحظات السعادة والراحة لا يكفي لإيفائه ما لاقاه من تعب وكدّ، بل كاد يجد جزءً ضئيلاً ممّا يستحقه من مقدار الراحة والطمأنينة المطلوبة في خريف العمر. وإنَّ ما من شأنه أن يؤمّنَ له هذا الجزء الضئيل من الراحة والطمأنينة والحقّ فيها تكمنُ في حقيقة الأمر في مَن يتواجد حوله من أفراد الأسرة والعائلة والمقرّبين. هذا إذا حافظ هؤلاء البشر من حوله على ردّ الجميل له عرفانًا بما قدمه في حياته المهنية والأبوية والأسرية. وكما يُقال، «لا يُجنى من الشوك عنبًا ولا من العوسج تينًا». ف «الشجرة تُعرف من ثمارها»، كما أنَّ «ما تزرعهُ إياه تحصد»! فمَنْ زرعَ شجرة نافعة في تربية منزله وأهلِه يحصدُ منها خيرَ الثمار التي تديمُ له الاحترام والمعزّة في سنيّ الشيخوخة.

رفقًا بكبار السنّ

من كلّ ما تقدّمَ، فإنّ الراحة التي ينشدها المتقدمُ في السنّ، لاسيّما بعد تركه ضنى العمل وتعب الوظيفة، لا يعني البتة قعودَه السالب أو عدم التفكير في الانخراط في عملٍ يتناسب مع قدراته الآنية الجديدة في المرحلة «الانتقالية» الوضعية التي تتطلبُ درايةً وافية بما يناسبُ الوضع الجديد القائم. هذا إنشاء ذلك طوعًا. فالحياة لا تتوقف إلاّ بزيارة سلطان الموت الذي يوقف كلّ شيء وينهي كلّ شيء بأمر من رب السماء. فمازال في جعبة هذا الإنسان المتقدم في السنّ أن يرعى الأبناء حتى لو كبروا ودخلوا معترك الحياة وحققوا النجاح والاستقرار، هُم وأبناؤُهم على السواء. هذه طبيعة الإنسان البشرية والعاطفية والبنوية على بساطتها وقانونيّتها البشرية. فالأبناء والأحفاد يبقون صغارًا في نظر الأجداد ولابدّ من متابعة تربيتهم ونموّهم ودراستهم ونجاحاتهم في العمل لغاية الحصول على وظيفة محترمة أوعمل مضمون كي يطمئنّوا لهم بها قبل رحيلهم. أليس هذا ما نقوله ونعتقدُ به في حواراتنا ونقاشاتنا وكتاباتنا نحن الذين أخذ العمرُ منّا مأخذًا وتُركنا جانبًا أو أُهملنا من أرباب أعمالنا ورؤسائنا لكوننا كبرنا وشخنا وما علينا إلاّ فسح المجال للأجيال كي تأخذ مواقعَنا ودورَها في تجديد دائرة الحياة والعمل؟ نؤمنُ بهذا حقًا ولا ننكر شيئًا ممّا تفكّرُ به الأجيال الجديدة ولا نعتبُ إلاّ على الذين ينكرون ما قام به الرواد وكبار السنّ والأجداد من أعمال ناجحة في فترات عملهم المهني طيلة الفترة التي أُتيحت لهم بعد أن عملوا بدون كلل ولا ملل في مواقعهم وبما استطاعوا تحقيقه من نجاح ونتاج، كلٌّ حسب قدراته ووزناته. فهذا ما نرثي له وليس غير ذلك عندما يتنكر مَن كان بالأمس يستجدي أيةَ مساعدة أو خدمة من جانب هذا الموظف أو العامل السابق ويتودّد إليه بشتى الوسائل والطرق مستخدمًا حتى الوساطات لنيل مبتغاه. لكنه قد يتفاجأ حين ترك تلك الوظيفة أو المهمة أو المنصب، بحصول قدرٍ من التراجع وحتى بعض الإهمال وشيءٍ من الازدراء أو التجاهل تجاهه بعد أن كانَ سيّدَ المواقف وصاحبَ الشأن والأمر وكأنّ الحياة لا تُقاسُ سوى بالمصالح والمنافع التي تنتهي بغياب أو انتهاء دور صاحب الفضل والوظيفة والخدمة، عامةً كانت أم خاصّة.  

دور الدولة

بالخلاصة، هناك ظاهرة سلبية تستحق الإدانة والاستهجان من الأبناء والمرؤوسين تجاه الأجداد وكبار السنّ الذين ارتضوا بالقناعة البشرية لما آلوا إليه من حالٍ وترحالٍ بعد مسيرة زمن السفر الطويل في المنزل ومواقع العمل والمسؤولية الوظيفية بكلّ ما فيها من نجاح وفشل وتفوق وتراجع.

إنه لَمِن الغبن والمؤسف له ترك هذا الكائن الذي بلغ هذه المرحلة العمرية في حالة خيبة وحاجة وضيق مادّي وأسفٍ لما آلَت إليه حالُه حين يٌغتصبُ حقُه في قسطٍ من الراحة والاحترام والعرفان والاهتمام التي يستحقها جميعًا في نهاية مشواره في المجتمع والوطن الذي يعيش فيه. فهناك مَن يقرأ عليه الفاتحة من ساعة خروجه عن نشاطه المهني في الوظيفة والمسؤولية والعمل. وهذا غبنٌ بل أمرٌ غير مقبولٍ من نكران الجميل تجاه هذا الإنسان الذي أفنى حياتَه في التضحية براحته وجهده من أجل أحبائه، سواءً كانوا في البيت الأسري أو في العمل أو المؤسسة أو في المجتمع عامةً. كما من حقه فسح المجال له واسعًا لاختيار رفقاء دربه في حياته الجديدة وبما يكفل راحتَه وطمأنينتَه وفلسفتَه الجديدة في هذه المرحلة الانتقالية من حياته. ومثل هذه الرفقة المتأخرة، الجديدة أو القديمة في سلكها واختيارها وإدامة عنفوانها هي الكفيلة بإيجاد شكل الراحة التي يبحثُ عنها صاغرًا أو مختارًا بحثًا عن نوافذ جديدة من المحبة والألفة والرفقة الحسنة في التجاوب معها وفق المقتضيات العمرية المتقادمة لغاية توديعه الحياة الدنيا.

وإذ ننسى فلا ننسى واجب الدولة والمؤسسات الرسمية أيضًا، والتي تقع عليها مسؤوليات وطنية واجتماعية وأخلاقية جسيمة إزاء هذه الفئة من البشر المتروكين والمهملين والمهمَّشين قسرًا بعد تركهم وظائفهم، وغالبًا بطريقة مهينة لا تليق بما قدّموه من خدمات وجهود وأعمال ساهمت بطريقة أو بأخرى في إنعاش الحياة واستمراريتها أثناء الخدمة العامة. فهؤلاء جديرون بمرافقتهم في أحوالهم الجديدة «الانتقالية» لغاية تسليم الأمانة الحياتية إلى باريها عبر تقدير مجمل خدماتهم وإنصافهم في تأمين متطلبات استحقاقاتهم التقاعدية والصحية المنقوصة وغير المقبولة مقارنةً بأشال الفساد والبذخ القائمة لصالح الأطراف التنفيذية والسياسية في الدولة العراقية. فجميع الأمم المتقدمة والبلدان المتحضّرة تسعى جاهدة لتقديم أفضل الخدمات الإنسانية والصحية والاجتماعية لهذه الفئات أكثر من غيرها إلاّ في بلداننا وأوطاننا الشرقية والعربية، إلاّ ما ندر في بلدانٍ تعلّمت الدروس والعبر واستفادت من خبرات غيرها من الأمم المتمدنة. فهي تضع دومًا خدمة مثل هذه الفئات في حسابات ميزانياتها وبرامجها التنموية والاجتماعية والحضارية، ناهيك عن تأمين حياتهم المعيشية وضمان مستحقاتهم المالية عبر رصد ما يتحتم على تأمين هذه المستحقات من مبالغ كي لا تحتار في كيفبة توفيرها كما حصل مؤخرًا وقد يحصل في زمن حكوماتنا العراقية المتتلية الهشّة والفاسدة. فمتى تعي هذه الأخيرة،  ويشعر مَن يتولون الحكم والمناصب ويتحكمون بثروات العراق بمصير وحياة هذه الفئات التي لا تنال إلاّ الفتات ممّا يتناثر من على موائد هؤلاء الساسة وهذه الزعامات الفئوية والطائفية والحزبية الأنانية المترعة بالجشع واللصوصية والسرقات بأشكالها وبمختلف وسائلها  الشيطانية؟؟؟

 يا سادة يا كرام، رفقًا بكبار السنّ والمتقاعدين، واحترامًا لدورهم السابق وتقديرًا لوضعهم الراهن ودعاءً لهم بالصحة والسلامة. فهُمُ البركة وفيهم الخير أينما حلّوا. وبدعائهم تحلو الحياة وتزدهر الأسرة ويرتقي المجتمع وتتجدّد الدولة معًا. ومَن يعتقد بنفاذ صلاحيتهم بعد الإحالة على المعاش فهو مخطئٌ وخاطئ أثيم، بل ومشاركٌ في جريمة القتل الرحيم والإهمال الجسيم لشريحتهم المظلومة المنهكة. بالله عليكم، أنصفوهم واضمنوا لهم مرتباهم الشهرية الهزيلة وسارعوا لتسديد مستحقاتهم المادية بلا تأخير ولا مماطلة. فهذه ليست منّةً منكم عليهم!

 


مشاهدات 38
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2025/11/05 - 4:17 PM
آخر تحديث 2025/11/06 - 1:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 65 الشهر 3839 الكلي 12365342
الوقت الآن
الخميس 2025/11/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير