الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مواعيد عرقوب على مائدة المتقاعدين

بواسطة azzaman

مواعيد عرقوب على مائدة المتقاعدين

حامد الضبياني

 

في اللحظة التي جلس فيها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمام وجوهٍ أنهكها الغبارُ والعمرُ والخذلان، بدا المشهد أشبه بمسرحيةٍ من تأملٍ وجودي طويل، لا من لقاءٍ إداريٍّ عابر. كانت الوجوه التي أمامه لا تطلب زيادةً في الأجر، بل اعترافًا بذاكرةٍ منسيّة. كانوا يتحدثون لا بأصواتهم، بل بأجسادٍ نخرها الانتظار، وكأنّ كلّ تجعيدةٍ على وجوههم سطرٌ من قانونٍ لم يُطبّق، وكلّ نظرةٍ في أعينهم بندٌ من مادةٍ أُقِرَّت ولم تُنفَّذ.تتراكمُ السنوات في العراق كما تتراكمُ الأتربة على نصبٍ حجريٍّ فقدَ ملامحه. عشرون عامًا والوعود تتكرّر: سنطبّق المادة 36، وسنراجع المادة 14، وسنفعّل المادة 12. عشرون عامًا من الصبر، والذين أفنوا أعمارهم في خدمة الدولة باتوا يشحذون حقّهم من دولةٍ تلوك الكلام ولا تبلعه، تصوغُ البيان ثم تنساه في دهاليز الروتين. ما بين قانونٍ مُقَرٍّ وموازنةٍ مفقودةٍ ومسؤولٍ لا يسمع، تُرك المتقاعدون في فراغٍ يشبهُ الموتَ بلا جنازة.لم يكن لقاء السوداني بهم لحظةَ عدلٍ بقدر ما كان مرآةً تُظهر هشاشةَ العلاقة بين الحاكم والمُنتظر. فمنذ أن انهار أول جدارٍ من نظامٍ قديم، والعراق يعيشُ في جدلٍ دائمٍ بين الوعد والتنفيذ، بين القانون والضمير، بين الخطاب والواقع. وكلّما اقتربت الانتخابات، انتعشت ذاكرة السلطة بالشفقة، وكأنّ المتقاعدَ لا يستحقّ العدالة إلا حين تُقرعُ طبولُ السياسة.الجيشُ السابق والمدنيون الذين تقاعدوا قبل 2014... وجوهٌ من الطين والعرق، حملوا الوطنَ على أكتافهم، لا ليتسلقوا به، بل ليحموه. دافعوا عنه حين كان الدفاعُ مكلفًا، وحين كانت الوطنية تُدفعُ بالدم لا بالشعارات. وحين أُغلق البابُ خلفهم، وارتاح السياسيّون في مقاعدهم الوثيرة، تُرك أولئك الرجالُ في الممرّ البارد للانتظار. جاعوا بصمت، ومرضوا بصبر، ومات منهم من لم يرَ في آخر الطريق إلا ورقةً صفراء تقول «المعاملة قيد التدقيق».هل يدركُ السوداني أنّ العدالة المؤجَّلة ليست عدالة؟ أنّ الوعود التي لا تُنفَّذ تتحوّل مع الزمن إلى إهانةٍ صامتة؟ أنّ المتقاعد لا يحتاج إلى منّةٍ أو فضل، بل إلى إنصافٍ يعيد إليه شيئًا من كرامةٍ ذابت في الروتين؟ لقد تحوّلت القوانين إلى جدرانٍ تُعلَّق عليها الكلمات، لا إلى جسورٍ تعبرُ الإنسان إلى حياةٍ كريمة. من المسؤول إذن عن موت الآلاف من المرضى الذين غادرت أرواحُهم وهم ينتظرون تطبيق موادّ أُقِرّت في الأوراق ولم تُقرّ في الضمائر؟السلطة في فلسفتها ليست منصبًا، بل مسؤولية أمام الزمن. والزمن، كما يقول نيتشه، لا يرحم من يخون لحظته. فكيف بمن خان وعدًا امتدَّ عقدين؟ المتقاعد العراقي ليس عابرًا في طريق السياسة، بل هو حجر الأساس في بناء الدولة. وإذا نُسف هذا الأساس، فكلُّ عمارةٍ تُقامُ فوقه هي خرابٌ مؤجَّل.إنّ لقاء السوداني، على ما حمله من نوايا وتصريحات، بدا كمن يزرعُ شجرةً في أرضٍ عطشى، ثم يرحل قبل أن يسقيها. الكلام لا يُطعم جائعًا، ولا يشفي مريضًا، ولا يُعيد كرامةَ من عاش عمرَه تحت سقفٍ من النسيان. الوطن الذي يُهين متقاعديه لا يُبقي لنفسه ذاكرة، لأنّ الذاكرة التي لا تُكرَّم تموت، ومعها يموتُ معنى الانتماء.ربما أراد السوداني أن يُعيد الأمل، لكن الأمل الذي يُقال لا الذي يُفعل، يتحوّل في الوجدان إلى سخريةٍ مريرة. فكم وعدٍ سمعه المتقاعدون منذ عشرين عامًا؟ كم تصريحٍ بُثّ في الشاشات وانتهى مع انطفاء الكاميرا؟ كم من لجنةٍ تشكّلت ثم ذابت في أرشيفٍ بلا تاريخ؟ كلّ تلك الوعود تشبه مواعيد عرقوب، لا تأتي إلا لتؤجَّل، ولا تؤجَّل إلا لتُنسى.في نهاية المشهد، يقف المتقاعدون كأبطالٍ في مأساةٍ إغريقية طويلة. لا يملكون إلا الانتظار، ولا ينتظرون إلا وعدًا آخر قد لا يأتي. لكن ما لم يفهمه الساسة بعد، أنّ الانتظار ليس صبرًا إلى الأبد، وأنّ الجوع حين يشتدّ يتحوّل إلى سؤالٍ أخلاقيٍّ لا يُجاب عنه بالبيانات.أيّها الساسة، إنّ من دافع عن العراق لا يستحقّ الإهمال، ومن بنى الدولة لا يجوز أن يُدفن حيًّا في تقاعدٍ بلا كرامة. إنّ العدالة التي تُمنح بعد الموت لا تُسمّى عدالة، والرحمة التي تأتي بعد أن يفنى الجسد لا تُسمّى إنصافًا.

سيكتب التاريخ أنّ المتقاعد العراقي انتظر عشرين عامًا لا ليسمع خطابًا جديدًا، بل ليحيا قليلًا من الكرامة التي حُرِم منها. وسيبقى السؤال الفلسفي المعلّق في فضاء الوطن:

هل ستولد العدالة في العراق يومًا من رحم الصدق؟أم أنّها ستظلُّ حُلمًا مؤجَّلًا يُروى في خطابات السياسة كما تُروى مواعيد عرقوب في كتب الأدب؟

 


مشاهدات 58
الكاتب حامد الضبياني
أضيف 2025/10/25 - 5:39 PM
آخر تحديث 2025/10/26 - 11:56 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 344 الشهر 17485 الكلي 12157340
الوقت الآن
الأحد 2025/10/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير