من الخرائط إلى التجسس الشخصي..  الوجه المظلم لخدمات GPS في الهواتف المحمولة

اثير هلال الدليمي

 

في عصر الهواتف الذكية لا تكاد تمضي لحظة دون أن تتصل فيها إحداثيات موقعك بخدماتٍ رقميةٍ متعددة، من تطبيقات الخرائط والمواقع ووسائل النقل المواصلات إلى برامج الطلبات والتوصيل السلع والخدمات وتطبيقات الطقس. إن هذه الخدمات تحمل فوائد عملية كبيرة مثل الملاحة اللحظية وتقدير أوقات الوصول وتخصيص المحتوى، لكن ثمن هذه الفوائد قد يكون إتاحة خط زمني مفصل لحركاتك وعاداتك، وهو ما يفتح الباب أمام استخدامات شرعية وغير شرعية على حد سواء. في مقالنا المهم هذا حرصنا على توضيح الموضوع من الجانبين التقني والقانوني المتكامل، اخذين بنظر الاعتبار شرح الية عمل خدمات تحديد المواقع، وتقديم نماذج لجمع البيانات، وعرض المخاطر الناشئة من سوء الاستخدام، عبر أمثلة عملية واقعية مبسطة، وكذلك إجراءات الحماية الشخصية القانونية والتقنية التي يمكن لأي مستخدم تطبيقها للحفاظ على خصوصيته وسلامته الرقمية والجسدية.

كيف تعمل خدمات تحديد الموقع في الهواتف: مبادئ فنية بسيطة.

إن الهواتف تحدد موقعها عبر مزيج من تقنيات مختلفة وهي كالآتي:

أولا: نظام تحديد المواقع العالمي GPS الذي يعتمد على استقبال إشارات من أقمار صناعية وحساب مسافة كل قمر لتحديد الإحداثيات. ثانياً: تستخدم الهواتف شبكات الخلوي (Cell towers) لتقدير الموقع عندما تكون إشارات الأقمار ضعيفة. ثالثاً: تستعين الهواتف بشبكات واي-فاي ونقاط البلوتوث المحيطة، ونماذج-انبعاث-الإشارة (RSSI) لزيادة الدقة داخل المباني، وتجدر الإشارة إلى أن أنظمة التشغيل تجمع بيانات مؤرخة للمواقع وتولّد «سجل المواقع» الذي يمكن أن يُخزَّن محلياً أو على خوادم الشركات لتقديم خدمات مخصصة.ان التطبيقات تطلب أذونات مختلفة للوصول إلى الموقع، والتي قد تكون متعددة الخيارات كان تكون «دائماً» أو «أثناء استخدام التطبيق» أو ممنوحة مرة واحدة فقط، لكن آليات التشغيل في الخلفية والوظائف مثل geofencing تسمح للتطبيقات بالاستفادة من الموقع حتى عندما لا تكون ظاهرة للمستخدم.لماذا تصبح هذه البيانات خطراً: أشكال المخاطر. أولاً، تتراكم سجلات الموقع لتُكوّن ملفاً زمنياً دقيقاً عن العادات والاهتمامات، مثل : مسار المنزل إلى العمل، ومواعيد زيارات أماكن خاصة مثل عيادة طبية أو مسجد أو مكتب محاماة وغير ذلك، ان هذا الملف يمكن أن يُستغل لأغراض تجارية مثل استهداف إعلانات مفرطة الدقة، أو لأغراض تتجاوز التسويق إلى استهداف سياسي أو اجتماعي.

استهداف جوي

ثانياً، ان فقدان هذه البيانات أو اختراقها قد يكون سببا يعرّض صاحبه للابتزاز أو يسهّل التعقب او الاستهداف الجسدي، خصوصاً في حالات العنف الأسري أو المطاردة.

ثالثاً، الجمع المفرط وغير الضروري للبيانات يثير مشاكل قانونية تتعلق بمبدأ الضرورة والحدّ من الاحتفاظ والشفافية، ما يجعل الأفراد عرضة للمراقبة القانونية غير المشروعة أو الدورية من جهات خاصة.

رابعاً، الربط بين بيانات الموقع وبيانات أخرى (رسائل، جهات اتصال، معاملات مالية) يمكنها من خلق ملفات تعريفية تفصيلية تُستخدم لتمييز صاحبها أو استهدافه أو حتى حرمانه من فرص عمل أو خدمات.

أمثلة مختصرة

مثالٌ عملي يظهر كيف يمكن لسجل الموقع أن يكشف أموراً دقيقة: كشخص يتلقى إعلانات علاجية موجهة جداً بعد أن زار  عيادة طبية متخصصة لايام متعددة؛ وعليه فإن الشركة الإعلانية ربطت بيانات موقعها بسجل زيارات المواقع الصحية.

مثالٌ أمني: موظفُ توصيل يُستخدم تطبيقه لتتبع مسار زملائه داخلياً، فيُكتشف تسرّب مسارات لتحديد مواقعهم في أوقات العطل، ما يُسهِم في استغلالهم أو مطاردتهم.

مثالٌ قانوني: جهة حكومية تطلب سجلات مواقع من مزوِّد خدمات لتتبع ناشط سياسي دون أمر قضائي واضح، مما يفتح باب تحدي قانوني حول شرعية هذا الطلب وعلى أي أساس قانوني طُلبت تلك البيانات.

الإطار القانوني العام: حقوق، التزامات ونقاط حساسة. على المستوى القانوني تتقاطع مسألة جمع مواقع الأفراد مع مبادئ حماية البيانات الشخصية المعروفة دولياً مثل الشفافية، والغرض المحدد، والحدّ من الاحتفاظ، وأمن البيانات. إن الحق في الخصوصية عادةً يحمي الأفراد من المراقبة غير المبررة، بينما تشكّل قوانين حماية البيانات (كقواعد تتشابه مع مبدأ الموافقة المُطلعة في تشريعات مثل اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR) أساساً يوجب على الجهات المشغّلة الإفصاح عن كيفية استخدام الموقع والحصول على موافقة صريحة عندما يكون الاستخدام خارج نطاق تقديم الخدمة الأساسية.

توجد كذلك مسائل جنائية وإجراءات إنفاذ تُجيز طلب سجلات المواقع بوسائل قانونية (أوامر قضائية أو استدعاءات) في حالات التحقيق الجنائي، لكن توازن الحقوق يتطلب رقابة قضائية وقيوداً واضحة لتجنّب الانتهاك التعسفي.

أما بالنسبة للعقود وشروط الاستخدام، فغالباً ما تحتوي التطبيقات على بنود تمنح شركات واسعة صلاحيات استخدام أو مشاركة بيانات الموقع مع شركاء تجاريين، وهي بنود قد تُعتبر غير عادلة أو مُضلِّلة للمستخدم في بعض النظم القضائية.

نقاط الضعف التقنية وطرق استغلالها.

الهواتف وبرامجيات الطرف الثالث قد تعاني من ثغرات تتيح للتطبيقات الوصول إلى الموقع دون موافقة صريحة، أو تستغل آليات الإذن بطريقة مخادعة عبر واجهات تمنح إذناً مؤقتاً ثم تواصل العمل في الخلفية.

كذلك قد تستخدم بعض الأطراف بيانات التتبع اللاسلكي (مثل MAC-addresses أو beacons) لبناء أنماط حركة دون الاعتماد على GPS، ما يجعل تعطيل GPS وحده غير كافٍ.

هناك أيضاً خدمات وسيطة وشركات تحليلات تجمع بيانات الموقع من مصادر متعددة وتبيعها في أسواق بيانات، ما يعني أن مخاطرة التتبع قد لا تأتي دائماً من التطبيق الذي استخدمته مباشرةً بل من شبكة شركاءه.

إجراءات الحماية الشخصية التقنية: ماذا يتوجب علينا فعله.

- أول دفاع هو مراجعة أذونات التطبيقات والحدّ منها بصرامة.

-منح الوصول للموقع «أثناء الاستخدام فقط» ما لم يكن هناك حاجة حقيقية للإذن الدائم.

-التحقق دوريًا من إعدادات سجل المواقع في نظام الهاتف وحذف السجلات القديمة أو تعطيل تخزينها إن أمكن.

- أطفاء خدمات الموقع عند عدم الحاجة، ولابد ان نشير الى أن وضع الطيران يعطل قدرات الإرسال لكنه لا يضمن دائماً عدم تسجيل المواقع محلياً.

ه. إيقاف مسح واي-فاي والبلوتوث في الخلفية يحدّ من قدرات التحديد داخل المباني.

-استخدم حسابات ضيف أو ملفات تعريف منفصلة عند تداول الهاتف مع آخرين أو عند تثبيت تطبيقات غير موثوقة.

-عدم التصريح للمواقع أو الشبكات العامة باية معلومات إضافية، والحذر من ربط حسابات التواصل الاجتماعي أو الخدمات بملفات تعريف مكانية تفصح عن العادات والاهتمامات والمواقع.

سياسات الخصوصية

اما على مستوى البرامج والتطبيقات.

- يجب اختيار تلك البرامج التي تعرض سياسات خصوصية واضحة وتتيح تحكماً حقيقياً بالبيانات.

- تجنَّب استخدام التطبيقات المشبوهة أو ذات السمعة الضعيفة.

- استخدم أدوات فحص الأذونات أو جدران الحماية للتطبيقات على أنظمة تسمح بذلك، ولابد من الإشارة المهمة الى أن شبكات VPN لا تخفي موقع GPS نفسه لأنها تُخفي عنوان IP فقط ولا تؤثر على استقبال إشارات الأقمار أو بيانات البلوتوث/واي-فاي المحلية.

إجراءات الحماية الشخصية القانونية والإجرائية.

عند الاحساس بأن خاصية برامج تحديد المواقع تستخدم للتعقب أو المضايقة، يجب أن توثّق الأدلة فورًا عن طريق حفظ لقطات الشاشة من إعدادات الأذونات، وحفظ الرسائل المريبة، وسجلات الحركة ذات الصلة، وطلب الاستشارة القانونية، وتقديم شكوى إلى مؤسسات حماية البيانات المحلية او المؤسسات الامنية إن كانت هنالك مؤشرات غير قانونية تدل على جمع أو مشاركة المعلومات والبيانات الشخصية، وطلب أوامر قضائية لفرض إيقاف جمع البيانات مؤقتاً أو طلب الحماية الشخصية في حالات التهديد. اما في حالات العنف الأسري أو التهديد الجسدي، قد يكون تقديم شكوى جزائية هو الإجراء المعمول به بالتوازي مع طلبات الحماية المدنية.

بعض التوصيات للمؤسسات التشريعية وصناع القرار.

ينبغي للمشرّعين أن يضمنوا سن آليات رقابية واضحة على طلبات الوصول لسجلات المواقع من الجهات الحكومية، وشروطاً صارمة للموافقة المُطلعة من المستخدمين، مع حظر البنود الغامضة في شروط الاستخدام على مزوّدي الخدمات تبنّي مبادئ التصميم من منظور الخصوصية Privacy by Design، والحدّ من الاحتفاظ بالبيانات إلى أقل مدة لازمة، وتقديم واجهات تسهّل للمستخدم فهم ومراجعة ومحو سجلاته ومعلوماته، كما أن تأسيس سجلات شفافية ووسائل للتحقق الخارجي من ممارسات مشاركة البيانات مع شركاء تجاريين يسهم في الحد من التجارة غير المنضبطة ببيانات المواقع.في الختام نلخص مقالنا هذا إلى أن خدمات GPS في الهواتف المحمولة توفّر فوائد يومية لا يمكن إنكارها، لكنها تحمل في طياتها مخاطر حقيقية عندما تُستخدم بلا ضوابط تقنية أو قانونية كافية. إن الحماية الرقمية للأفراد تتطلب مزيجاً من تصرفات شخصية تقنية، وأدوات رقابية ومؤسساتية، وقواعد قانونية توازن بين الأمن العام وحقوق الخصوصية، ويقع على عاتق كل مستخدم امكانية تقليل الانتهاك والتجسس من خلال الوعي بأذونات التطبيقات، ومراجعة إعدادات الجهاز، وتوثيق أي استخدام مشبوه لبيانات موقعه طالباً الحماية القانونية عند اللزوم. في النهاية، ان نقل الخرائط إلى بيانات شخصية قابلة للتتبع يجب أن يصاحبه التزام مجتمعي وقانوني واضح يجعل من الخصوصية قيمة لا تساوم عليها الخدمات مقابل الراحة.