الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السعادة والمعنى في الفلسفة الرواقيّة والفكر المعاصر


السعادة والمعنى في الفلسفة الرواقيّة والفكر المعاصر

زهراء رعد ناصر

 

إن الإنسان، مهما بلغ من العلم والمكانة، لا يبرح في بحثه عمّا يروي روحه، ويملأ وجوده بالمعنى، ويمنحه سعادة تستقر بها نفسه. فالسعادة والمعنى وجهان للرفاهيّة الإنسانيّة؛ يلتقيان في الهدف، ويختلفان في الطبيعة، ومتساويان في أثرهما على حياة المرء. كثيرًا ما يساور الناس رغبة في أن تكون حياتهم ذات معنى، وهذا الشعور لا يرتبط بالمتعة أو الرضا عن الحياة كما هي فحسب؛ فقد يستمتع المرء بحياته، غير أنه يدرك في قرارة نفسه خواءً داخليًا ولا جدوى ما يضطلع به. يظهر المعنى عندما يلتقي الانجذاب الشخصي بالقيمة الموضوعيّة، فتتحقق الغاية ويتجسد الارتباط بما هو جدير بالاهتمام، وتتجاوز الحياة مجرد الترفيه أو الانشغال العابر. أما السعادة، فهي هنا جانب مرتبط بالمعنى، وقد تنشأ عن الانخراط في هذه الأنشطة، لكنها ليست الهدف الأساسي ولا معيارًا للقيمة، إنما شعور  يعكس عمق ارتباط الإنسان بما يؤديه ويُقدم عليه.

تعتبر السعادة من الموضوعات التي شغلت العقل البشري منذ العصور الأولى، لكونها غاية وجوديّة يسعى الإنسان إلى بلوغها بوصفها مقياسًا للخير والرضا والاكتمال. وقد تناول مارتن يانيلو في مقالته (فلسفة السعادة: مدخل نقديّ) هذا المفهوم على أنه ظاهرة متداخلة الأبعاد تلتقي فيها المقاربات النفسيّة، والدينيّة، والفلسفيّة، والعلميّة، في محاولة لفهم ماهية السعادة وسبل تحقيقها. ومما يحسن ذكره أن هذه المقالة تعد تمهيدًا نقديًا لما قدمه يانيلو في كتابه (فلسفة السعادة)، الذي يتوسع فيه بتحليل الأسس النظريّة لمفهوم السعادة. يورد يانيلو رأيًا يُفهَم منه أن السعادة تبدو بديهية في وعي الإنسان، إلا أن تحليله يكشف عن تركيب معقد يتكون من حاجات الفرد، ودوافعه، ورغباته، وتجربته الوجوديّة.  كما أن الإخفاق في تحقيق الحاجات الإنسانيّة يولد الشعور بانقباض النفس، الذي يؤدي بدوره دورًا تكامليًا في تحديد معنى السعادة نفسها، إذ لا يُفهم أحد النقيضين إلا في ضوء الآخر. ويرجح يانيلو إلى أن السعادة تمثل خبرة ذاتيّة خالصة، لأن مصادرها ومعاييرها تتباين باختلاف العوامل النفسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة التي تشكل كيان الفرد. وهذا الفهم الذاتي لا ينفي وجود عناصر مشتركة بين البشر في تعريفاتهم للسعادة، نظرًا لتقاربهم في بعض الأسس البيولوجيّة والاجتماعيّة. بيد أن هذه المشتركات لا تؤدي إلى توحيد التجربة الإنسانيّة، لأن كل فرد ينفرد بتكوينه الخاص وبالظروف التي تحيط به. فالعوامل التي تصوغ السعادة تتداخل بطريقة ديناميكية بين التكوين الفردي للإنسان وبيئته ومجتمعه، مما يجعل السعادة حالة نسبية تتغير بتغير الزمان والمكان والمقام. ويشير يانيلو إلى أن الحقبات التاريخيّة حدّت من قدرة الإنسان على ممارسة فردانيته في تحديد مصادر سعادته، بسبب هيمنة النظم الهرميّة والقبليّة التي قدمت مصلحة الجماعة على نزوع الفرد نحو تحقيق ذاته. ومع تطور الوعي الاجتماعي في العصور الحديثة، أخذ الإنسان يتحرّر تدريجيًا ليصوغ دلالات سعادته وفق رؤيته الذاتيّة، وبذلك تحولت السعادة من مفهوم جمعي إلى قيمة ذاتية مرتبطة بالحرية والمسؤولية الشخصية. وتحمل هذه النقلة في طياتها  إحدى أهم التحولات الفكريّة في تاريخ البشريّة، لأنها جعلت من السعادة ظاهرة فكريّة وروحيّة تتجاوز مجرد البقاء إلى تحقيق المعنى والاكتمال.

 وفي هذا الشأن، تشير الدراسات الحديثة التي تناولت تصورات الناس عن السعادة والمعنى إلى أن السعي نحو السعادة يقوم على عدة أبعاد رئيسية، منها: المتعة وإرواء التطلعات، والسكينة والراحة، والعلاقات وما تمنحه من شعور بالانتماء، وأخيرًا ظروف الحياة التي لا سلطان للإنسان عليها. أما المعنى، فأشد غورًا، وأبعد مرامًا؛ إذ يتطلب من المرء أن يربط بين ماضيه وحاضره ومستقبله، وأن يؤوّل تجاربه على ضوء قيم كبرى وأفكار عليا، فيجد في التضحيات والمشقات ما يمنح حياته غاية تتجاوز حدود اللذة الآنية. وأوضحت التجارب أن ما يُرضي النفس ويزيدها سرورًا قد لا يمنحها بالضرورة معنى. وأن من يعيش حاضرًا مشبعًا بالراحة، قد يغفل عن الامتداد الزمني لوجوده، بينما من يربط نفسه بهدف أعظم، ويصوغ هويته من خلال العطاء، يجد في الهموم والمشقات بذور غايته. وممّا لا يُغفَل عنه أن الكثير من الناس يخلطون بين السعادة والمعنى، فيحسبونهما مفهومًا واحدًا، وما يزال الخلاف قائمًا في التمييز بينهما. فالسعادة منظومة معقدة من القيم، والأفكار، والعلاقات، والاختيارات التي تتداخل في النفس البشريّة، وتتشكل ضمن قواعد وقوانين، بعضها تفرضه الطبيعة والمجتمع، وبعضها نضعه نحن لأنفسنا. غير أن هذه القواعد لا تضمن السعادة بحد ذاتها، إنما تشكل الإطار الذي يتحرك فيه الإنسان سعيًا نحوها. وهنا، يشير يانيلو إلى أن السعادة لا تُفهم إلا إذا عرف الإنسان إلى ماذا يسعى، أي إنها تتطلب معنى. إذ لا يمكنه أن يكون سعيدًا حقًا ما لم يدرك الغاية التي يعيش من أجلها، وما لم يجد توازنًا بين النظام الخارجي الذي تفرضه القواعد، والنظام الداخلي الناشئ عن قيمه ومعتقداته. فمن دون معنى، تصبح جميع القواعد مجرد قيود، ولكن حين يكتشف الإنسان الهدف الذي يمنح جهده واتجاهه قيمة، تتحول القواعد إلى وسيلة لتنظيم المسار نحو ذلك المعنى.

ويورد يانيلو على ذلك موضحًا أن السعادة لا تُدرك إدراكًا تامًّا إلا لمن تأمل وجوه الارتباط بين خفايا النفس وأسبابها، وعرف كيف يتشابك ظاهرها بباطنها، لأن التجربة الشعوريّة لا تنفصل عن الوعي ولا عن الظروف المحيطة. فالسعادة ليست حالة ثابتة أو مطلقة، إلا أنها طيف من الانفعالات يتفاوت في الدرجة والاستمراريّة تبعًا للغايات التي يسعى إليها الإنسان، ومدى انسجامها مع واقعه الداخلي والخارجي. ويتلاقى هذا الرأي مع ما طرحه الحكماء منذ القدم، حيث أدركوا أن قيمة الحياة لا تُستمدّ من الأحكام والظروف الخارجيّة المحيطة، إنما من الكيفية التي يفسر بها الإنسان ما يجري حوله. المسألة عندهم في نوعية ما نخلقه من وعينا بالحدث، وفي الطريقة التي نحيل بها الألم إلى بصيرة تضيء الطريق. وهذا ما صدع به أهل الرواق منذ زينون وخلفائه، إذ يرى الرواقيون في المعنى نبعًا يُروى بما يتوافق مع ذات الإنسان وطبيعته. فقد تلتف حوله الصعاب، فيقاومها ويبلغ بها مقامًا عاليًا لا تبلغها المحن ولا تهزه الشدائد. فما ينفع المرء حقًّا هو ما يجعله حرًّا من الارتهان للذة، لأن من يعلق نفسه بذلك يعرض سعادته لرياحٍ لا حيلة له في دفعها. وما يضره حقًّا هو الركون إلى المتعة الحسية والإعراض عن الغاية، وما خلاها من أمور عابرة، فهي لا تكسب طمأنينة ولا تنزعها. ومن المسلّم به في الفكر الرواقي أن على الإنسان أن يوجه انتباهه من الخارج إلى الداخل، ليحيى سعيدًا بمعنى، مطمئنًا بغاية، فلا ترفعه لذّة ولا تسقطه خيبة. فأصل المعاناة، حسب تصورهم، يكمن في اعتقاد الناس أن السعادة تُنال من محيطهم الخارجي. فإذا ما بلغوا ذلك، لم يجدوا الطمأنينة، وإذا فقدوه ظنوا أن حياتهم قد خلت من المعنى. يقول الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس في كتابه (تأملات) أن على المرء ألا يثقل كاهله بما لا ضرورة له، وأن النفس لا يُصيبها جرح من خارجها ما لم تفتح له بابًا من داخلها. فيؤكد أن الإنسان يملك سيادة على ذاته، فهو الذي يدير انفعالاته ويقيم أحكامه، ويحدد موقفه من الوقائع المحيطة. ومن ثمّ، فإن مصدر الاضطراب أو السكينة لا يوجد في العالم الخارجي، بل في الطريقة التي تُدرك بها النفس هذا العالم وتحكم عليه. فإذا أحسن المرء توجيه حكمه، وجعله متزنًا عقلانيًا، هدأ وانسجم مع ذاته؛ أما إذا أساء الفهم، وانساق خلف الأهواء والانفعالات، فقد توازنه واستعبدته مظاهر الحياة الزائلة.

وثمة، إلى جانب ذلك، موقف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بين ما في النفس وما يحيط بها من الواقع الخارجي، ويتعلق بآراء الآخرين؛ إذ يرى أوريليوس أن الإنسان يُؤذي نفسه حين يجعل سعادته رهينة لما يقوله الناس عنه أو يفكرون فيه. فالسعي وراء المديح أو القبول الاجتماعي يجعل المرء معتمدًا على الخارج، فاقدًا لاستقلاله الداخلي، شبيهًا بالشحّاذ الذي يطلب العطاء من غيره. ومن ناحيةٍ أخرى، يوجّه أوريليوس الإنسان إلى الاعتماد على ذاته، واستمداد قيمته من فعله العادل ونواياه الخيّرة، لا من المنظومة الاجتماعيّة أو علاقته بالآخرين. فلا بد للمرء أن يوجّه اهتمامه في كل لحظة من حياته لأداء مهمته بما يليق به كإنسان. ولهذا حذروا من الارتهان لكل عارض خارجي وضرورة إدراك أن الأزمات والمحن ليست ما يقوض السعادة والمعنى، وإنما ما يضيفه الإنسان إليها من تقييماته الداخلية وتفاعله معها. ذلك لأن أوريليوس، شأنه شأن يانيلو، يقرّ أن السعادة ليست حالة يُفرض فيها المعنى على الفرد، لأنها تجربة وعي تتشكل من الداخل عبر عملية إدراك ذاتي ومسؤولية شخصية تجاه الوجود. ومن ثمّ، فإن الفرد لا يبلغ سعادته الحقيقية إلا حين يدرك أنه هو الفاعل في صياغة معناه وتحديد غايته، لا مجرد مستقبل لقيم أو أنماط مفروضة عليه. ومن هذا السبيل، تتكامل الرؤيتان، ويؤكد كل منهما على مبدأ الإرادة الداخليّة بوصفهما الشرط الأسمى للسعادة والمعنى. وبذلك تصبح هذه القوة هي المبدأ المحرك للتجربة الوجوديّة، والتي يتحرر بها الإنسان عن قيد المحيط الخارجي وما يرمِ به من فوضى وأعباء.


مشاهدات 46
الكاتب زهراء رعد ناصر
أضيف 2025/10/13 - 2:58 PM
آخر تحديث 2025/10/14 - 3:49 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 99 الشهر 8937 الكلي 12148792
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/10/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير