سياسة الرهائن ورهائن السياسة.. من أزمة السفارة إلى انهيار محور المقاومة
جعفر زيارة
منذ أن اقتحم طلاب الثورة الإيرانية المقربون من الإمام الخميني السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، في ما عُرف لاحقًا بـ"أزمة الرهائن"، دخلت الجمهورية الإسلامية طورًا جديدًا من العلاقة المعقدة والمتوترة مع الولايات المتحدة.
فقد شكّل احتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين لأكثر من أربعمئة يوم، نقطة الانطلاق لنهجٍ استخدمت فيه طهران ورقة "الرهائن" ليس بوصفها حادثة طارئة، بل كأداة استراتيجية في سياستها الخارجية.
من الحادثة إلى المنهج
منذ تلك الواقعة، تداخلت سياسة الرهائن مع رهائن السياسة. تحولت ملفات الأسرى والمعتقلين والمفاوضات السرية إلى أدوات ضغط ومساومة، مكنت إيران من انتزاع مكاسب مالية ودبلوماسية كبرى — بدءًا من الإفراج عن الأموال المجمدة، وصولًا إلى تغيّر مواقف أمريكية تجاهها في مراحل مختلفة.
ومع مرور الزمن، لم تتوقف آثار تلك الحادثة عند حدود سقوط حكومة جيمي كارتر أو طرد الشاه، بل أرست معادلة جديدة في علاقة طهران بالعالم، قوامها التوتر الدائم واستثمار الأزمات.
الأزمة الأولى وتشكّل الصورة الدولية
دفع احتجاز الرهائن داخل الأراضي الإيرانية البلاد إلى أزمة سياسية داخلية حادة. فقد استقال رئيس الوزراء مهدي بازركان احتجاجًا على ما اعتبره تجاوزًا لسلطة الدولة وهيبتها، لتظهر إيران في الوعي الدولي كدولة متمرّدة على الأعراف الدبلوماسية ومستخفّة بالقانون الدولي.
ومنذ ذلك الحين، ترسخت صورة "الدولة الخارجة عن النظام العالمي"، وهو توصيف ظل يرافق الجمهورية الإسلامية في تعاملها مع الغرب على مدى العقود اللاحقة.
ويرى محللون أن تلك الأزمة لم تكن مجرد حادثة محلية، بل كانت الشرارة التي أعادت رسم خريطة الصراع في الشرق الأوسط. فنتائجها دفعت إلى اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وإلى نشر حاملات الطائرات الأمريكية في الخليج، كما مهّدت لتحوّل استراتيجي غربي، تمثّل في دعم التيارات الإسلامية السنية لمواجهة النفوذ الإيراني والاتحاد السوفييتي معًا.
من لبنان إلى "إيران–كونترا"
مع اتساع نفوذها الإقليمي، لجأت طهران إلى تفويض أذرعها بتنفيذ عمليات احتجاز الرهائن، لتبقى هي في موقع المفاوض وصاحبة القرار.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، برز لبنان كساحة رئيسية لتطبيق هذه السياسة، حين احتجز تنظيم "الجهاد الإسلامي اللبناني" عددًا من الرهائن الغربيين، في عمليات نُظر إليها على نطاق واسع بوصفها امتدادًا لسياسات حزب الله المدعوم من إيران.
ومن خلال تلك الملفات، فتحت طهران قنوات تفاوض سرية مع الولايات المتحدة وفرنسا، انتهت إلى ما عُرف بـ"صفقة إيران–كونترا"، التي حصلت إيران بموجبها على أسلحة استراتيجية خلال حربها مع العراق، مقابل الإفراج عن رهائن في لبنان.
تحوّل ملف الرهائن بذلك إلى أداة سياسية مزدوجة: تضغط بها طهران حين تريد، وتفاوض بها حين تشاء.
سياسة عابرة للحدود
بمرور الوقت، لم تعد سياسة الرهائن أداة بيد إيران وحدها، بل أصبحت نهجًا عامًا لأذرعها الإقليمية.
ففي عام 2006، نفذ حزب الله عملية أسر جنديين إسرائيليين مطالبًا بإطلاق الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين، لتندلع حرب تموز المدمرة.
وفي غزة، أقدمت حركة "حماس" على أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ما أدى إلى حرب قاسية انتهت بصفقة تبادل شملت أكثر من ألف أسير فلسطيني.
تلك الوقائع جسدت انتقال "سياسة الرهائن" من طهران إلى ساحات نفوذها، لتغدو أداة ضغط ومساومة ذات طابع سياسي ورمزي، تستخدمها الحركات المسلحة المتحالفة مع إيران ضمن معادلة "المقاومة والمفاوضة".
من ورقة قوة إلى فخ استراتيجي
خلال العامين الأخيرين، بلغت سياسة الرهائن ذروتها — ثم ارتدت على أصحابها.
ففي السابع من أكتوبر، نفذت حركة "حماس" هجومها الواسع على إسرائيل تحت شعار "تحرير الأسرى"، في عملية رآها كثيرون استمرارًا لنهج "رهائن السياسة".
لكن النتائج جاءت مغايرة تمامًا لتوقعات محور المقاومة.
فقد انتهت الحرب بدمار شبه كامل لقطاع غزة، ومقتل قيادات بارزة من "حماس" و"حزب الله"، فضلًا عن اغتيال ضباط من الحرس الثوري وفيلق القدس في سوريا ولبنان.
وفي خضم تلك التطورات، سقط نظام بشار الأسد — الذي كانت طهران تعتبره "عمود خيمة محور المقاومة" — ما شكّل ضربة استراتيجية قاصمة لبنية المحور ونفوذ إيران الإقليمي.
تزامن ذلك مع استهداف منشآت نووية وصاروخية داخل إيران، وفقدان طهران معظم أدواتها العسكرية والسياسية في المنطقة. وهكذا، تحوّل ما بدأ كسياسة ضغط تفاوضي إلى عبء استراتيجي، أنهى مشروع "المقاومة" الذي طالما قدّمته إيران بوصفه ركيزة لممانعة الغرب.
خاتمة: رهائن السياسة وسقوط المشروع
بعد أكثر من أربعة عقود على أزمة السفارة الأمريكية، تبدو سياسة الرهائن وقد وصلت إلى نهايتها المحتومة.
فما كان يُعدّ ورقة قوة بيد طهران أصبح عبئًا يهدد وجودها الإقليمي ويكشف حدود قدرتها على المناورة.
وبينما يقف المرشد الإيراني اليوم وحيدًا على أنقاض محورٍ كان يُروَّج له يومًا كجبهة صلبة في وجه الغرب، يخلص المراقبون إلى أن سياسة الرهائن لم تدمّر خصوم إيران بقدر ما استنزفت مشروعها ذاته، لتتحول من أداة تفاوض إلى فخ سياسي قاتل.