الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بين دفء الأمس ومخاوف اليوم

بواسطة azzaman

بين دفء الأمس ومخاوف اليوم

هدير الجبوري

 

كان الزمن يمضي بنا وكأنه لا يريد أن ينتهي، نعيش تحت سقف واحد يجمعنا بدفء لا يشبه أي دفء آخر في بيت واسع بأحد أحياء بغداد العريقة، يحمل لمسة وجمالية بيوت السبعينات في حي يضلل النخيل وأشجار الكالبتوس شوارعه المتسعة ، يسرّب إلينا حياة هادئة بطعم الفطرة.ربما لم نكن نملك الكثير، لكننا كنا نملك أنفسنا، نملك حضورنا الكامل بعضنا لبعض، وذلك وحده كان ثروة لا تُشترى.

كنا نمر بأزمات ، نعم، وكان الحزن يزورنا أحياناً كثيرة، لكنه لم يكن أثقل من قلوبنا المتماسكة، ولم يكن أعمق من قوتنا حين نكون مع  بعضنا البعض. ولم نكن نعرف أو جربنا بعد معنى وجع فقدان أحداً منا.كان شتاء بغداد جميلاً بجلسته حول المدفأة، بدفء الام التي كانت تنتظر عودتنا لتملأ قلوبنا حباً وحناناً بطبق الغداء الذي تقدمه لكل واحد منا عند عودتنا باوقات مختلفة  وبدون ان تتذمر...  الخريف كان له بريق خاص حين تتناثر أوراقه أمام بيتنا، والربيع يعلمنا كيف تزهر الحياة من جديد، حتى الصيف الذي لم أحبه يوماً كان يُحتمل لأنه كان صيفنا معاً.

لكن حين رحلت أختي، ومن بعدها أخي للابد تبدل وجه العالم تماماً وعرفنا معنى الفقد الحقيقي وصار البيت أوسع من حاجتنا، والجدران صارت صامتة أكثر مما نحتمل، والأيام التي كنا نظنها عابرة، تحولت إلى خناجر من ذكرى، كلما استدعيناها نزفنا من جديد. لم تعد المواسم كما كانت: شتاء بلا دفء، ربيع بلا زهور، وخريف يخلع أوراقه على وجوهنا لا على الطرقات.وأصبح الوقت نفسه مشروعاً دائماً للقلق، كأن عقارب الساعة لا تخبرنا بالزمن، بل تنذرنا بفقد جديد قد يطال أحداً من العائلة. صار الفرح شحيحاً، يتوارى كلما حاول أن يقترب، بينما الحزن صار وفيراً، يغمر تفاصيل حياتنا بلا استئذان. الجدران التي كانت تحتضننا تضيق بنا، والشوارع التي كانت تزهو بالفرح وتتنفس بألوان الناس صارت باهتة، يكسوها صمت لم نعرفه من قبل.

نهرب بعيداً ونسافر الى هنا وهناك كي نشعر بالأمان، لكن الأمان لا يتحقق، نظل نحمل خوفنا معنا حيث نذهب، نظل أسرى فكرة أن الغياب يترصدنا، وأن الذكرى الجميلة قد تتحول في أي لحظة إلى وجع جديد.

والخوف صار يطاردنا كما لو أن الزمن نفسه صار مظلماً، يختبئ خلف اللحظات السعيدة، يلوح في زوايا البيت، في صمت الشوارع، في حركة الأشجار، في أصوات الرياح، في كل ضحكة قصيرة تتوقف فجأة. لم نعد نثق في الأيام الجميلة كما كنا، صار كل شيء هشاً، وكل لحظة فرح مهددة بالزوال، وكل ذكرى سعيدة قد تتحول إلى كابوس يتركنا بلا نوم، بلا راحة، نتلمس الأمان الذي لم يعد موجوداً إلا في قلبنا والذي يتضائل مع كل غياب جديد يختبئ وراء عقارب الساعة..

 


مشاهدات 84
الكاتب هدير الجبوري
أضيف 2025/08/23 - 2:48 PM
آخر تحديث 2025/08/25 - 5:42 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 280 الشهر 17786 الكلي 11412872
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير