الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في ذكرى رحيل شاعر العرب الأكبر


في ذكرى رحيل شاعر العرب الأكبر

سارة سلام

 

أعاتب فيك الدهر لو كان يسمعُ

وأشكو الليالي، لو لشكواي تسمعُ

أكلُّ زماني فيك همٌ ولوعةٌ

وكل نصيبي منك قلبٌ مروِّعُ

كانت هذه أولى الأبيات التي تعلقت بها للشاعر الكبير محمد مهديالجواهري قبل عشرين عاماً، فبدأت أبحث عن أبياته، عن حياته، عن سرالبذلة البيضاء، وعن خطواته التي لم تتعب من حب العراق رغم خذلانالسياسيين وتقلبات الحكم، وكيف حملته المنافي من بغداد إلى براغودمشق، وكيف قدّر للمهجر أن يحتضنه أخيراً في مقبرة الغرباء فيالعاصمة السورية.

في مثل هذا اليوم، 27 تموز/يوليو 1997، ترجل الجواهري عن صهوةالقصيدة بعد عمرٍ امتد لما يقرب من قرن. رحل الجسد، وبقي صوته الجهيرفي آذان الأمة، شاهداً على زمنٍ عربيٍ تاه بين العسكر والمنفى.

محمد مهدي الجواهري ليس مجرّد شاعر كلاسيكي، بل انتقالة شعريةكبرى في تاريخ القصيدة العربية الحديثة. ففي وقتٍ كان الشعراء يلوذونبالمجازات الخفيفة واللغة المستهلكة، جاء الجواهري كالعاصفة: لغته فخمةكقصر عباسي، وعروضه متين كجذور النخل، وصوره تنضح بالحياةوالمفارقة والنضال.

نشأ في بيت علم ودين، لكن قلبه اختار الشعر، ووجد في اللغة ميدانه الأولوالأخير. لم يكتب من برجٍ عاجي، بل من عمق الشارع العراقي والعربي، منهموم الناس، ومن دخان الثورات والانقلابات. معاصرته لأحداث سياسيةكبرى – من سقوط الملكية، إلى صعود العسكر، إلى هيمنة الأحزاب – جعلتمنه شاهداً لا مجرد كاتب.

ولعل قربه من المماليك السياسية في العراق – من القصر الملكي إلىمجالس الأحزاب – جعله يُتهم أحيانًا بأنه شاعر السلطة. لكن الحقيقةأعقد من ذلك. الجواهري كان صاحب عقل لا يُشترى، ولسان لا يُسترضى. قربه من السلطة لم يكن تزلّفًا بل تحديًا، وكان يعرف تمامًا أن الكلمةتُقارع المدافع إذا نُحتت من صدق.

بيته الثقافي في بغداد اليوم، بعد رحيله، ليس مجرد متحف، بل مرآة لذاكرةثقافية مشتهاة، يتردد فيها صدى أبياته التي لا تموت. في مكتبته آثار تبكيالحروف، ومخطوطات تُظهر كيف كان الجواهري يتهجّى المعاني كراهبٍ فيمعبد الشعر. إنه بيت لا يسكنه أحد، لكنه مأهول بالرمزية، بنُبل الكلمة، ووجع النفي.

في وقفات من حياته، تبدو ملامح التحول لا كقرارات عابرة، بل كأحداثقدرية. حين ترك بغداد بعد خلافه مع السلطة، كتب قصيدة “يا دجلة الخير”، وتركها تنهش في قلب البلاد كما تنهش المنافي قلب شاعر. لم يكن رحيلهمنفى فقط، بل صك اعتراض وجودي على الواقع.

ولأنه شاعر الوجود، لا السياسة فقط، أراه آخر فلاسفة الشعر العربي. لميكن الشعر عنده وسيلة بل غاية. كان يرى في الحرف خلاصًا من الموت، وفي القصيدة وطنًا بديلًا، وفي اللغة ما يعادل الحياة نفسها.

الجواهري لم يمدح حاكمًا إلا ومهّد له بوخزٍ شعري، ولم يهجُ خصمًا إلاوخلّده بطريقة أو بأخرى. كان شاعر التناقض النبيل، الذي يستطيع أنيبكيك وهو يصرخ، ويؤنّبك وهو يمدح، ويمدّ لك يدًا من نار ويدًا من حب.

وفي ذكرى وفاته في مثل هذا اليوم من 27 تموز، لا نرثيه فقط، بل نعود إلىأنفسنا لنرى: من يكتب اليوم كما كان يكتب الجواهري؟ من يجرؤ أن يقول:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْجَعِ تَنَوَّرَ  بالأبلَجِ الأروَعِ

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنانِ رُوْحَاً ومن مِسْكِها  أَضْوَعِ

وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف"وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْرَعِ

رحم الله شاعر العرب الأكبر.

وسلام عليه في المنافي وفي الذاكرة

 

 

 


مشاهدات 82
الكاتب سارة سلام
أضيف 2025/08/03 - 3:31 PM
آخر تحديث 2025/08/04 - 4:27 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 156 الشهر 2334 الكلي 11277420
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير