النجاح في بيئة العمل والكلام المبطن.. قراءة في ضوء علم النفس التنظيمي
حنان محمود عبد الرحيم
المقدمة
تشكل بيئة العمل منظومة اجتماعية معقدة تتداخل فيها الأهداف المؤسسية مع العلاقات الإنسانية بين الأفراد. فالنجاح المهني لا يقتصر على الإنجاز الوظيفي، بل يثير أيضًا ردود أفعال متفاوتة من المحيطين. البعض يثمّن الجهد ويشجّع، في حين يلجأ آخرون إلى النقد المبطن أو التعامل النفعي الذي يُخفي وراءه دوافع غير معلنة. هذه الظواهر، وإن بدت عابرة، تعكس ديناميات عميقة تناولها علم النفس التنظيمي بالتحليل والدراسة (Robbins & Judge, 2019).
أولًا: النجاح كعامل مولِّد للمقارنة
في بيئة العمل، يشكّل النجاح الفردي عنصرًا مقلقًا للتوازن الاجتماعي. فبروز أحد الموظفين بإنجازاته يثير المقارنة، ويُشعر البعض بتهديد لمكانتهم أو كفاءتهم. ووفقًا لمفهوم "العدالة التنظيمية" (Organizational Justice) الذي طرحه Colquitt (2001)، فإن أي شعور بخلل في التقدير أو التوزيع العادل للفرص قد يدفع البعض للتعبير عن استيائهم بطرق غير مباشرة، منها السخرية المبطنة أو تقليل قيمة الإنجاز.
ثانيًا: الكلام المبطن وأثره النفسي
الكلام المبطن في بيئة العمل غالبًا ما يتخذ شكل عبارات ظاهرها المجاملة وباطنها الانتقاص. هذا النمط من التواصل يُصنّف ضمن السلوكيات "السلبية – السلبية" (Passive-Aggressive Behavior). ويشير Baron & Greenberg (2008) إلى أن هذه السلوكيات تُعد من أشكال العدوان التنظيمي غير المباشر، الذي يؤدي إلى تآكل الثقة بين الزملاء، ويُضعف مناخ العمل الإيجابي.
ثالثًا: العلاقات النفعية في بيئة العمل
من أبرز التحديات التي يواجهها الناجحون وجود أشخاص يتعاملون معهم على أساس المصلحة. هذه العلاقات النفعية لا تقوم على الاحترام المتبادل، بل على ما يمكن للفرد أن يقدمه من منافع آنية. ووفقًا لمفهوم "العلاقات الأداتية" (Instrumental Relationships) الذي أشار إليه Cropanzano & Mitchell (2005) في إطار نظرية التبادل الاجتماعي (Social Exchange Theory)، فإن الأفراد الذين يبنون علاقاتهم على أساس نفعي ينسحبون سريعًا عند انتفاء المصلحة، مما يخلق شعورًا بعدم الأمان النفسي لدى الطرف الآخر.
رابعًا: الجرح حين يأتي من المقربين
الأثر النفسي للكلام الجارح يبلغ ذروته حين يصدر عن شخص يُعدّ مقرّبًا أو ذا مكانة خاصة. يشير Kahn (1990) في دراسته عن الانخراط الوظيفي (Employee Engagement) إلى أن فقدان الدعم العاطفي من الزملاء أو المقربين داخل بيئة العمل يؤدي إلى تراجع الشعور بالانتماء التنظيمي، ويولّد حالة من الانسحاب النفسي أو العاطفي.
خامسًا: استراتيجيات المواجهة
الرسمية المهنية: التعامل بلغة واضحة ومقتضبة تحصر العلاقة في إطار العمل فقط.
التقييم الموضوعي للنقد: التمييز بين النقد البنّاء الذي يسهم في تطوير الأداء، وبين التعليقات التي تعكس دوافع شخصية.
بناء شبكات دعم إيجابية: تكوين علاقات قائمة على الثقة والتقدير المتبادل (Luthans, 2011).
إدارة الطاقة النفسية: إدراك أن القيمة الذاتية لا تتحدد بكلام الآخرين، بل بقدرة الفرد على الإنجاز والاتزان.
الخاتمة
إن النجاح في بيئة العمل لا يُختزل في تحقيق الأهداف المهنية فحسب، بل يشمل كذلك مواجهة التحديات النفسية والاجتماعية التي يولّدها هذا النجاح. فالكلام المبطن والعلاقات النفعية ليسا إلا انعكاسًا لاضطرابات في التوازن التنظيمي أكثر مما هما انعكاس لحقيقة الناجحين. ومن منظور علم النفس التنظيمي، تظل الاستراتيجية الأكثر فاعلية هي تحويل هذه الضغوط إلى دافع للتطوير، والتمسك بالاتزان الداخلي الذي يجعل النجاح صامدًا أمام أي محاولات للتقليل من قيمته.