حين يتحرر العقل و حين يحيى الضمير 

علي العزي 
 

في لحظات التحول الكبرى التي تعيشها الشعوب، لا يكفي الغضب وحده، ولا تكفي المعرفة المجتزأة، ولا حتى الشجاعة المنفصلة عن الوعي. ما تحتاجه الأمم هو نضج مزدوج: نضج فكري يعيد تشكيل نظرتها إلى نفسها وإلى العالم ككل، ونضج أخلاقي يوجّه هذه المعرفة نحو ما هو عادل وإنساني.
النضج الفكري لا يعني كثرة المعلومات، بل القدرة على التفكير النقدي، والتحرر من الجمود العقائدي، والاستعداد لمراجعة الذات. العقل الناضج لا يتورط في التعميم، ولا ينجرّ خلف الخرافة، ولا يسجن نفسه داخل سرديات الماضي. إنه عقل يطرح الأسئلة بدلًا من أن يكرّر الإجابات، يرى التعقيد لا الأبيض والأسود فقط.
والشعب العراقي، بكل ما مرّ به من مآسٍ، بحاجةٍ اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى ثورة عقلية تُعيد له ثقته بقوة الفكر لا قوة السلاح، بمنطق الحوار لا صراخ الطوائف، بمستقبلٍ يبنيه الوعي لا الثأر.
أما النضج الأخلاقي، فهو السموّ فوق الغرائز السياسية والطائفية، والإدراك أن الإنسان لا يُقاس بدينه أو عشيرته، بل بعدله ونزاهته وصدقه.

في العراق، إنموذجًا، حين سقطت الأقنعة، وحين غاب الضمير، زُيّفت الحقائق، وقُتلت الكلمة، وشرعنت سرقة البلاد تحت مختلف المسميات.
النضج الأخلاقي لا يعني الطهرانية، بل يعني الحد الأدنى من الشرف الذي لا يُباع، والحد الأعلى من الإنسانية التي لا تُخون.
المعرفة دون ضمير تتحوّل إلى استبدادٍ ناعم، والأخلاق دون وعي تصبح ساذجة، سهلة الاستغلال.

وحده انصهار النضج الفكري والأخلاقي هو ما يخلق الجيل الجديد القادر على كسر الحلقة:
جيلٌ لا يرث الكراهية، ولا يتبنّى الجهل، ولا يصمت على الفساد، بل يقف شاهقًا، حرًّا، عادلًا، حتى وإن كان وحيدًا.
الشعب العراقي لا تنقصه الكرامة، بل فُرض عليه أن ينسى صوته. ولا تنقصه المواهب، بل قُمعت وأُقصيت. لكن كل شعب، حين ينضج عقلُه وضميرُه، يستطيع أن يستعيد بلده… لا بالثأر، بل بالعقل والعدل.
فهل نبدأ من داخلنا؟
هل نحن مستعدون لوقف غسيل الأدمغة، والانطلاق نحو أفق النضج الرحب؟
ربما يكون هذا هو السؤال الأهم في زمننا هذا.