يجعلون الفريضة واجهة خداع
حاتم جسام
يعدّ الحج الركن الخامس من أركان الإسلام التي فرضها الله تعالى على عباده، فهو ليس مجرد رحلة عابرة أو مناسبة احتفالية. بل هو إعلان روحي جاد عن بداية جديدة، وميثاق مع الله على التغيير والالتزام. لكن وللأسف، لم يسلم هذا الركن من محاولات التزييف والاستغلال، سواء من قبل الأنظمة السياسية أو الأفراد الباحثين عن مجد زائف لتغطية عيوبهم الداخلية منها والخارجية حتى ولو بعرض مسرحي.
المشهد الاول: “حجي عرعر”… حين صارت المناسك أداة ضغط سياسي
في سنة 1999، شاهد العالم مشهداً عبثياً في منفذ عرعر الحدودي مع المملكة العربية السعودية، حين أرسل النظام العراقي آلاف المواطنين دون تأشيرات للحج، متذرعاً بحقهم في أداء الفريضة، بينما كانت الحقيقة هي استخدام الحج كورقة سياسية للابتزاز والضغط السياسي. وبدلاً من أن يُرفع التكبير على جبل عرفات، رُفعت معاناة الحجاج العراقيين على بوابات الحدود، حيث حُرم الآلاف من أداء ركنهم المقدس، لا لذنب ارتكبوه، بل لأنهم وقعوا بين فكّي نظام ديكتاتوري لا يتورّع عن استخدام الدين وقوداً لصراعاته.
المشهد الثاني: “حجي السوشيال ميديا”… نسك الرقمنة والاستعراض وانتقلنا اليوم إلى نسخة جديدة من الاستغلال للمناسك المقدسة، لكن بأدوات أكثر حداثة. لم يعد هناك نظام يدفع الناس بالقوة، بل دوافع داخلية ونزوات ورغبات آثمة نحو التفاخر والتسويق الذاتي. ظهر “حجي الفيسبوك” و”حجي الإنستغرام” و”حجي السناب”، حيث تُختزل روحانية المناسك في صور ذات جودة عالية، وعبارات دينية مُنمّقة مرفقة بمؤثرات بصرية.
نرى ان مشهد الحاج الذي يركّز على الزاوية المناسبة للتصوير أكثر من أداء المناسك بشكل سليم، ويحسب عدد المشاهدات أكثر من التسبيحات، أصبح مألوفاً ،وهناك من يوثّق كل لحظة، ليس لأن اللحظة مقدسة، بل لأنها قابلة للنشر، ويحدث التحوّل اللحظي من الظلم إلى الخشوع الافتراضي ،وما يزيد المفارقة ألماً، أن بعض هؤلاء الحجاج كانوا بالأمس القريب يمارسون أبشع أوجه الظلم ،صاحب متجر يغش في الميزان ،موظف يبتز الناس لمصالحه وتاجر يتفنّن في استغلال حاجات الناس ،لكنهم فجأة يتحوّلون إلى أولياء صالحين بمجرد ارتداء ثياب الإحرام، وتتحوّل صفحاتهم إلى منابر “إيمانية من نور”، يُوزّع فيها الخشوع كما تُوزّع المنشورات الدعائية.
المشهد الثالث: “حجي المعالي” فساد بوجهٍ مُتديّن
ولعلّ النموذج الأشد مرارة اليوم هو نموذج “حجي المعالي” ذاك المسؤول الذي ينهب المال العام بلا هوادة، يقمع الموظفين، ويبتز الضعفاء، ويفتري بقول الزور ثم يظهر في موسم الحج باكياً متخشعاً أمام عدسات الكاميرات. يترصد القنوات الاعلامية التي تغطي مناسك الحج لتظهره في لقطات البكاء، ومقابلات عن “السكينة التي شعر بها”، في مشهد تمثيلي يُراد به تجميل وجهٍ لا يُجمّله ألف طواف.
أيُّ توبة تلك التي لا تُثمر عدلاً؟ وأيُّ حج ذاك الذي لا يغيّر شيئاً في سلوك صاحبه بعد العودة؟ {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (القرآن الكريم الآية 30 سورة الحج).
المشهد الأخير: ما بعد العودة
تنتهي المناسك، فيبدأ “عرض العودة”،هدايا من ماء زمزم وتمر المدينة المنورة ،أحاديث عن “تجربة روحية” تفيض طمأنينة وسكينة ، وربما يطلق لحية مؤقتة -كما يقول المثل عنها تحت كل شعرة يوجد الف شيطان – سرعان ما تُقصّ، كما تُقصّ شرائط الافتتاح في فعالياته التي يحرص على حضورها امام وسائل الإعلام.ثم بعد أسبوع أو اثنين، تعود الحياة كما كانت. ويُطوى الحج كما تُطوى جوازات السفر، دون أثر في النفس أو السلوك.
ختاماً نقول إن الحج ليس مناسبة اجتماعية ولا إعلان توبة مؤقتة، وليس مناسبة لتلميع السمعة. إنه ميثاق عميق بين الإنسان وربه، يبدأ من عرفات ولا ينتهي عند مطار العودة. فهو ارتقاء سلوكي، لا مجرد مشهد مرئي. فإما أن نحج بصدق، ونغيّر ما بأنفسنا، أو نترك هذه الفريضة في مكانتها المقدسة ولا نحولها إلى واجهة للخداع ، مع دعواتنا للجميع بحج مبرور وذنب مغفور وتجارة مع الله لن تبور.