عند موقف الباص
هدير الجبوري
في ذلك الركن القديم من الذاكرة، حيث كانت الشمس تشرق بتأنٍ على الأرصفة المزدحمة يقف ظلّي عند موقف الباص، تماماً حيث اعتدت أن أنتظر (باص الأمانة) كما كنا نسميه في بغداد.
هناك كانت الحياة تمشي على مهل، وكان القلب لا يزال غضاً، مؤمناً بأن كل شيء ممكن، وأن الانتظار لا يعني الخسارة، بل رجاء في قدوم شيء جميل.
كنت شابة صغيرة، لكن ملامحي كانت تشي بعنادٍ لا يشبه سنواتي. كنت أعرف طريقي، أو هكذا خُيّل إليّ. هناك، في صمت الموقف، كانت تجمعني بها لحظات لا تنسى. فتاة لا تتكلم كثيراً لكن في عينيها شجن ثقيل، كأنهما تحرسان جرحا غائرا لا يُرى. كنّا نقف متجاورتين، ثم تنفصل طرقنا في صعود صامت إلى باصين مختلفين، غير أن الموقف كان يجمعنا، وكأنه وعدٌ مؤجل بلقاء أطول.
لم تكن كغيرها، كانت حزينة على نحوٍ نبيل، وكأن الحزن جزء من شخصيتها، لا عارضاُ طارئاً وفي صوتها عند إلقاء التحية، كان خيط بكاء مخنوق لا يخطئه القلب.
ومع مرور الأيام، بدأت أتعرف إليها: اسمها، عملها، حكايتها... وكنت أرغب في صداقتها، ربما لأن شيئا خفياً كان يجمع بيننا، شيءٌ يشبه الخيبة أو الشوق لما لا يُنال.
حكت لي عن رجل علّقها بين السماء والأرض. لم يكن مجرد حب، بل شيء أعمق، علاقة تشبه الاعتياد، أو ربما الأسر. لم يكن يستطيع الرحيل عنها، ولم تكن تملك القوة لمغادرته (بيننا أكثر من الحب)، قالتها يوماً، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها عن عشقٍ لا يُشفى مع الزمن. لم أفهم يومها، لكني الآن أعرف معنى ذلك : أن يحب الإنسان حدّ الموت بأحلامه، حدّ الخذلان، حدّ الفقد، هو شيء لا يشبه القصص، بل يشبه النزيف.
قالت: سأمضي عمري في عشقه، حتى لو غادرني..
مرت السنوات ثم، في صدفة كأنها كُتبت لي التقيتها مجدداً في بغداد. لم تكن كما كانت. نظرتها صارت باهتة، وخطوط السنين حفرت على وجهها، لكنها لا تزال كما هي. لم يقتلها الوقت، بل عِشقها. هو رحل إلى بلاد بعيدة، وهي بقيت تحرس الذاكرة، وحدها.
انتهت حكايتهما ،، لكن العشق لم يمت.
وتأكد لي اننا لا نحب الأشخاص فقط ، بل نحب ذكرياتنا ولحظاتنا معهم و أماكننا معهم، انتظارنا لهم...
عند موقف الباص لم أكن أنتظر الباص فقط، بل كنت أنتظر نفسي التي كنتها، وتلك الصديقة التي لم تصبح يوماً صديقة فعلًا، لكنها بقيت حكاية لا تُنسى في دفتر الذكريات. والحنين الذي يعود بنا حيث كنا أكثر صدقاً أكثر وجعاً، وأكثر حياة..