ملاعق ذهب السوداني وجوع عمال المطاعم
فيصل عبد الحسن
كلما دخلت مطعماً وحدي أو معي ضيف في دولة عربية استضفته في المطعم لظرف خاص بي وجدت عماله يتلمظون وهم يحملون لنا صحاف الطعام، وكنت أتعجب بيني وبين نفسي، وأقول بذات نفسي هؤلاء العمال اللطاف يتضورون جوعاً وإلا لما جحظت عيونهم وهم ينقلون لنا صحاف الطعام، وهو بالمناسبة طعام عادي لا يلفت النظر، فلست غنياً لكي أطلب ما فوق طاقة جيبي المتواضعة، لكنني كنت أطرد هذا الهاجس، وأحيل ما رأيته على وجوههم هو من أثار التعب لكثرة الزبائن، وكونهم يعملون على تحضير الأطعمة في ساعة مبكرة من الصباح، ولكن بقي هذا الهاجس يجالسني كلما جلست في مطعم وخصوصاً حينما تضطرني ظروف العمل أن أبقى خارج البيت، وأتناول لقيمات الغداء في أحد المطاعم وحدي.
أنواع الخبز
لا أنكر أن رائحة الطعام ومنظر المقبلات وتنوع السلطات تدير أي رأس لأي جائع صعلوك أو أمير، ولكن ليس لمن يعمل على تحضيرها؛ فهو حسب أبسط الفرضيات سيكون مصاباً بالملل من رؤية الأطعمة التي يعيد تهيئتها كل يوم، وأن يعتاد رائحة توابلها ومنظر سلطاتها، ولا تدهشه هشاشة اللحم المطهو جيداً، ولون نضجه المقدم للزبون فوق طبق ملئان بالخيرات، أو منظر بضاضة السمك المقطع إلى شرائح متبلة.
أما أنواع الخبز، فهذه مسألة أخرى، تراه مقطعاً إلى شرائح بعضه موشى بالحبة السوداء وأخر يبدو كشرائح منمنمة بالسمسم المحمص وآخرى محناة بالتوابل الحريفة، وكنت أوهم نفسي بأن ما أراه ليس إلا مما أعانيه من جوع، وأن عليّ لكي أكون مهذباً أن أغض الطرف عن رؤية وجوه البشر وهم يعملون، فربما لهم وقت معين لتناول الطعام، وأن هذا الوقت لم يحن بعد، وسوء حظي يقودني في هذا الوقت بالذات إلى المطعم الخطأ في الوقت الخطأ، وأن عليَّ في كل الأحوال أن أطأطىء رأسي واحترم تقسيم الحظوظ بين الناس؛ فناس تأكل وتملأ أمعدتها بأنواع الأطعمة وأشهاها، وآخرون يخدمون فوق رؤوسهم واللعاب يتهاطل إلى جوانب أفواهم من الركض بين الموائد، وتلبية الطلبات، والبطون خاوية تراقب وتنفذ رغبات آخرين جائعين، ولكن الطبع غلب التطبع كما يقال، فطبعي الفضولي ككاتب جعلني أبحث هذه الظاهرة التي أراها تتكرر كل مرة من دون ان أجد لها تعليلاً معقولا.
ملاعق الذهب
وشاءت المصادفات أن أتعرف على شيف مطعم ثرثار وأريحي في الوقت ذاته، فأخذت أتجاذب معه أطراف الحديث، فقد كنت على حذر من أصحاب المهنة الواحدة، فهم لا يعطون أسرار مهنتهم لمتطفل مثلي، فهم أحذر من فأر وأحرص من قط، وأخذت أسرد حكايات من الماضي عشتها له، فحكيت له عن زيارتي لفلورنسا بأيطاليا قبل سنوات، وكيف استضافني صديق في أحد مطاعمها الراقية وعندما فرغنا من الطعام قادتني قدماي وأنا أبحث عن المغاسل إلى معزل عمال المطبخ، فوجدتهم يتناولون وجبة طعامهم، وكانت وجبة مغرية حقاً شملت جميع أنواع الأطعمة التي تقدم إلى الزبائن بل وأفضل منها، فاعتذرت وخرجت مسرعا من ذلك المعزل !!
ففتح الشيف عينيه على سعتهما، وقال هنا الأمور مختلفة يا صديقي، فعادة يبقى عامل المطعم جائعا وأذا أراد أن يتناول شيئاً مما يقدم للزبائن، فيستقطع ثمن ذلك من يوميته الهزيلة، فيفضل أن يبقى طاوياً على جوع حتى لا تتأثر أجرته، وعندها عرفت سر تلك السحنات الصفراء لعمال المطاعم، وهزالة أجسامهم، ونظرات الجوع في عيونهم، نعم ربطت بعد ذلك بالمعادلة الصعبة التي تحكي اليوم عن شراء ملاعق ذهب لأجل قمة محمد شياع السوداني وجوع عمال المطاعم.
تذكرت كل هذا وأنا أقرأ انفعالات العراقيين؛ وصورهم في الفيديوات في وسائل التواصل، وهم يرون آلاف الأطنان من القمح التي تُهدى إلى سوريا وتونس، وشاحنات البترول التي تُباع بأسعار رمزية إلى الأردن، ومليارات الدولارات التي تصفر من دين شحنات البترول إلى لبنان وملاعق الذهب التي تُشترى بملايين الدولارات من أجل قمة عربية فاشلة من ألفها إلى يائها، وقلت لو لم يكن العراقيون جائعين ومحتاجين لكل شيء: العمل والكهرباء والصحة والتعليم والطعام، كما حال عمال المطاعم التي أزورها لما ضاقت عيونهم ولما تهاطل لعابهم، وهم يرون خيرات بلادهم تستنزف بحماقات المسؤولين في العراق، وسوء تدبيرهم للشأن العام وكل هذه المواجع الدراماتيكية للعراقيين من أجل الحصول على ولاية ثانية لمحمد شياع السوداني.
*كاتب مقيم بالمغرب