الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
وِلَاْدَةُ المُعجمِ التَّارِيخيّ للُّغةِ العربيَّةِ حَدَثٌ مفْصَلِيّ مُهمٌ فِي الثَّقافةِ العربيَّةِ


وِلَاْدَةُ المُعجمِ التَّارِيخيّ للُّغةِ العربيَّةِ حَدَثٌ مفْصَلِيّ مُهمٌ فِي الثَّقافةِ العربيَّةِ

كريـم عـبيـد عـلـوي *

                    

شهدَ اليومُ العالميّ للُّغةِ العربيَّةِ فِيْ 18من ديسمبر (كانون الأوَّل)  قبلَ نهايةِ عامِ 2025 حدثاً تاريخياً وثقافياً مهماً جداًهوالإعلان عن إنجاز المعجم التَّاريخي للُّغة العربيَّة التي تشرف عليه (الدوحة)عاصمة قطر و قد سمّي باسمها (معجم الدَّوحة) ، وهو حدث مفصلي مهم في الثقافة العربيَّة ، ولسنا مبالغين إذا قلنا إنَّه أهم حدث  ثقافيّ عربيّ في نهاية الربع الأوَّل من القرن الحادي والعشرين  ، فمعجم العربية التاريخي سوف يكرس سُنناً وتقاليد بحثية جديدة ، وفي الوقت  نفسه سوف يشرع البابَ في إعادة النَّظر في الكثير من المفاهيم المعرفيَّة التي جرى تداولها والتسليم بنتائجها اللغوية والثقافية ، فالمعجم التأريخي هو معجم لغوي لا يكتفي بتقديم ما يقابل الألفاظ من معاني وضبط الكلمات صرفياً وإملائياً ويوثّق استعمالاتها الأدبية والمجازية وأصولها وصورها الاشتقاقية ، فالأمر يتعدى كلَّ ذلك إلى مسالة مهمة هي  النظر في البعد التأثيليّ والتأصيليّ لهذه المفردات و تحقيق أصولها وروافدها التي اقترضتها العربيَّة من اللُّغات الأخرى ، فاللُّغة كائنٌ حي ينمو وتتسع تعابيرُها وتتطورُ ألفاظها للإيفاء بحاجاتٍ تعبيريَّة وأفكار جديدة ، فالمتغيرُ الجديدُ في صناعة هذا المعجم هو أنَّ المدخلَ المفرداتي لكل كلمة يضع تاريخاً لعامٍ محدد  يضبط ويوثّق استعمالها لأوَّل مرة  ويضع تواريخ تتعقبُ الانزياحاتِ الدلاليَّة في تطور معاني المفردات موثقة بنصوصها وشواهدها الاستعماليَّة. وهذا اللون من المعاجم هي فكرة بل حلمٌ انبثق في القرن العشرين وغرسه المستشرقُ الالمانيّ( فيشر) أحد أساتذة علم اللُّغة التَّاريخيّ والمقارن الذين درَّسوا في الجامعات المصريَّة ووضع نواته وشرع بجمع مادته لكنه لم يكتملْ فقد اضطرته ظروفُ الحرب العالميَّة الثَّانية إلى مغادرة مصر إلى بلاده وتوفي هناك وترك ما جمع من مفردات عربية تاريخية على أمل أن تكون نواة يعمل عليها المجمع العلمي في القاهرة ، ولكنَّ المجمع انشغلَ بوضع (المعجم الوسيط) وأرجأ العملَ فيه لمعوقاتٍ وتحدياتٍ كبيرة واجهته ، فهو أمرٌ ليس بالهين ويستدعي وقتاً طويلاً ، فالمعجم التاريخيّ الألمانيّ وهو أوَّل معجم تاريخي يظهر وقد وضعه مشروعه الأخوان (غريم) وهما عالمانِ في الفيلولوجيا وعلم اللغة التاريخي قد استغرق وضعه أكثر من ثمانين عاماً وقد أنجز عام 1961  وقد جمع المفردات الألمانية الفصيحة من عام 1450 إلى عام 1832، أما المعجم التاريخيّ للُّغة الإنكليزيَّة فقد استغرق وضعُهُ أكثرَ من عشرين عاماً .وحاولتِ الدراسات المعجمية العربيَّة الحديثة بلورة رؤية نقدية تستلهم العربيَّة المعاصرة في وضع معاجم عربيَّة معاصرة  تفي بمتطلبات البحث العلميّ  وروح المعاصرة ، فشرعتْ بنقد المعجم القديم  وعدم تمييزه بين المعنى الاستعمالي المعني بالبعد التزامني للغة العربية الأدبية وبين المعنى التأريخي المهتم بتطور الأفكار واشتقاق ألفاظها المعبرة عنها وكيفية ولادة المصطلحات  العلمية بتحول الدلالة  وتطورها من العام إلى المعاني الخاصة بكل حقل من الحقول العلمية مع محاولة تأصيل جذور الألفاظ وردِّها لأصولها السَّامية الأم .والمشكلة تكمن في الامتداد التاريخيّ الطويل  للعربية فهو يربوا على أكثر من ألفين عام مما يقتضي تعقب هذه الحقب الزمنية ورصد تحولات الألفاظ  وانبثاق المُولَّد منها ، وهذا أمر لا يتأتي لباحث واحد  أو فريق بحثي أن يضطلعوا به  ما لمْ ترعه مؤسساتٌ مهمة وفاعلة وجادة وتُكرَّس له الجهود  وتُوظَّف له الأموال وينطلق العمل من حسن التخطيط  والإرادة الحقيقية  التي تعضدها الهمم المخلصة والطموحة وهذا ما قد تحقق في معجم الدَّوحة . فأي دراسة في أي حقل من حقول المعرفة تحرص على ضبط المفاهيم خلال المعالجة الاصطلاحية  سوف تقوم بمراجعة الكثير من المفردات و المصطلحات لتعقب تطور الأفكار العلمية ، فالفكرة لا تولد دفعة واحدة وانَّما هناك مراحل ومسار طويل لتشكل هذه الفكرة من خلال انتقالها عبر حقول معرفية مختلفة فتنتقل معاني هذه الألفاظ  وتتطور مواكبة لتطور المصطلح ، وقد تستعير بعضُ الحقول المعرفية مفاهيمَ ومصطلحاتٍ فيتم تبيئة هذه المفرداتِ  في مناخ علميّ جديد مع احتفاظها لبعض ملامحها الأصل  . ومما لاشك فيه أنَّ هذا الأمر لا يتأتى إلا للمحقق الثَّبت ، ولكن المعجم التَّاريخيّ الجديد سوف يسهّل هذه المهمة أمام الباحثين  والدارسين ويذللُ الكثيرَ من العقبات ،فهو معجم يؤرِّخ للذاكرة الثقافية العربية وتحولاتها الفكرية وسوف يشرع باباً مهماً لإعادة النظر في الكثير من الأوهام و المسلمات البحثية غير الدقيقة في مختلف المجالات في علوم اللغة والنقد وعلوم الاجتماع والفقه والأصول وألفاظ الحضارة والعلوم العقلية كالمنطق والفلسفة العربية  ضمن المنجز التراثي  إلى جنب العلوم  الإنسانية الحديثة  كاللسانيات والنقد الأدبيّ وعلم الاجتماع وعلم النَّفس والإعلام والسياسة والاقتصاد وعلم الأديان وكذلك العلوم الصرفة كالهندسة والطب والتشريح والصيدلة وعلوم الفيزياء وغيرها من علوم اشتمل على مصطلحاتها المختلفة  معجم الدَّوحة الجديد .

وللمعجم موقع الكتروني افتراضي  يسهّل المراجعة والبحثَ بإدخال المفردة فيظهر المعنى الاستعمالي  للمفردة وضبطها الصرفي ويؤرّخ لسنة استعمالها في شواهد من الكلام ، ويزوّد القارئ بتحولات استعمالها المجازية أو الاصطلاحية في سنوات لاحقة. ويشير هذا الموقع الافتراضي للمعجم  أنه يشتمل على أكثر من (300 ألف مدخل معجمي ) ويتضمن أكثر من ( مليار كلمة عربية ) ، تعود إلى أكثر من ( 10 آلاف جذر لغوي عربي) جرى استقراؤها من خلال مضان عربية تاريخية تربو على أكثر من ( 10 آلاف ) مصدر من  البيبليوغرافيا العربية والمصادر المختلفة . ويبدأ المعجم من القرن الخامس قبل الهجرة بالاعتماد على نقوش حجرية  وحفريات دونت عليها المفردات العربية وصولاً الى عام 2025 ميلادية  أي يمسح حقبة لغوية تاريخية  تبلغ  ألفين عام. وقد اعتمد المعجم المدخل التاريخي نهجاً أساساً في تنظيم المفردات وليس الترتيب القائم علي التمييز بين المصادر وصورها الاشتقاقيَّة بسبب طابعه التَّخصصيّ التَّاريخيّ ، ولكن المشرفين على المعجم وعدوا بإمكان تطويره وتحديثه مستقبلاً ليشمل تعدد المداخل إلى جنب المدخل التاريخي ، فهو معجم رقمي غير ورقي قابل للتطوير والتحديث. و يتيح المعجم تحديد مدة البحث التاريخي في ظهور المفردة لأوَّل مرة في التداول وتطوراتها الاستعمالية ،فهو يعتمد في صناعته ووضعه على أساس مفهوم التحقيب الزمني . وقد استلهم المعجم في مداخله المفرداتية فكرة ( الوسم ) ، وهي فكرة لسانية صورية توليدية انبثقت على يد العالمين (كاتز) و(بوسطال) واستأنس بها (تشومسكي) فيما يتعلق بالمعجم الذهنيّ وكيفية استدعاء المفردة في الدماغ في توليد البنى العميقة . وقد أفادَ منها معجمُ الدَّوحة في تحديد السمات الصوتيَّة والصرفيَّة والنحويَّة والدلاليَّة وربطها بسياقها. لقد حاول الكثير من العلماء اللغويين العرب بجهود فردية وأبرزهم اللغويّ عبدالله العلاليّ أن يضعوا معاجم تاريخية ولكن ضخامة المشروع ومحدودية إمكاناتهم المادية الفردية لم تسعفْهم في إتمام مشاريعهم الجادة والمخلصة ،وكذلك حاولتْ بجهود مخلصة الجامعة التّونسيَّة قبل عقود عديدة من الزمن  ولكن جهدها تلخص بإصدار أجزاء لحقبة تاريخية محدودة بسبب صعوبة هذا المشروع. ويعود الفضلُ إلى ( المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) الذي يرأسه المفكر الفلسطيني (عزمي بشارة) و باقتراح من مجموعة من أساتذة اللغة الأفذاذ العاملين فيه وأبرزهم (رمزي البعلبكي) بأن يتبنى المركز وضع هذا المعجم في عام 2011  ، وما كان للمركز وحده أن ينهض بأعباء هذه المهمة الصعبة  من دون عرضها على دولة قطر وتبنيها ودعمها المالي الكبير للمشروع ، وما كان للمشروع أن ينجح لولا التطور في مشاريع حوسبة اللغة العربية بفضل  ظهور اللسانيات التطبيقية وأبحاث الذكاء الاصطناعي وتطور الرقمية في العالم العربي. وبعد الاتفاق على رؤية علمية معجمية  في دراسات دؤوبة ورصينة انطلق المشروع عام 2013 واكتمل هذا العام 2025 وأُعْلِنَ عنه في اليوم العالميّ للُّغة العربيَّة . وهناك إصدار ورقي  مطبوع صادر عن هذا المركز يتحدث عن هذا المشروع مفصلاً . وهناك بوابة افتراضية للمعجم تحمل عنوان ( معجم الدوحة التاريخي للغة العربية) يمكن للقارئ الكريم الدخول عليه والإفادة من المعجم والاطلاع بنحو مفصل على المنطلقات اللغوية في صناعة هذا المعجم . ولكن يبقى الشيء المهم الذي يريد التنويه به هذا المقال هو ضرورة التثقيف بالعودة إلى هذا المعجم وتدريب الطلبة في  كليات ومعاهد تعليم اللغات في جامعاتنا العراقية وتدريب الباحثين بنحوٍ عامٍ لا بحقل العربيَّة فحسب على الإفادة من هذا المعجم في توثيق تطور الأفكار . إنَّ ولادة هذا المعجم هي بشارة بوليد معرفيّ يُؤمل أنْ يُحدثَ تحولاتٍ فيْ كثيرٍ من التصورات و يعيدُ النَّظرَ في كثير من المسلمات المعرفيَّة والثَّقافيَّة ، والأمرُ الأهم أنَّه لا يسع أي باحثٍ أكاديميّ ــ بعد الآن ــ يريدُ أن ينتهجَ الرَّصانة أنْ يغضَّ الطرف أو يتجاهل هذا المعجم ويغفل عن العودة إليه في توثيق تطور الأفكار والتاريخ لانبثاق المصطلح العلميّ.       

   * باحث وتدريسي بجامعة بـغـداد


مشاهدات 28
الكاتب كريـم عـبيـد عـلـوي
أضيف 2025/12/27 - 1:32 PM
آخر تحديث 2025/12/27 - 11:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 822 الشهر 20480 الكلي 13004385
الوقت الآن
السبت 2025/12/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير