الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
آليَاْتُ بَلاغةِ الجمهورِ العِرَاقيّ فِيْ نَقْدِ خِطَاْباتِ المُرشحِينَ للانتِخَابَاتِ البرلمَانيَّةِ

بواسطة azzaman

آليَاْتُ بَلاغةِ الجمهورِ العِرَاقيّ فِيْ نَقْدِ خِطَاْباتِ المُرشحِينَ للانتِخَابَاتِ البرلمَانيَّةِ

كريم عبيد علوي

 

الخِطابُ هُوَ فِعْلٌ قوليّ إنجازيّ يَرتكزُ إلى مرجعياتٍ مَعرِفيةٍ أو أيديولوجيَّة تشكّلُ رؤيتَهُ ، ويمتلكُ سُلطةً فِي التوجيه ومحاولة الهيمنة وإعادة تنميط الأفكار والتأثير في المتلقين وتوجيه مسارهم الفكريّ والعمليّ ، ويستندُ في ذلك إلى مجموعةٍ من الآليات اللغويَّة تنتهجُ خططاً طويلة المدى يُصْطَلَحُ عليها في أدبيات تحليل الخطاب بـ (استراتيجية الخطاب) ، وتتنوعُ تلك الاستراتيجياتُ في ضوء ظروفِ إنتاج الخطاب ومراحل تكوينه وكيفية بناء نسيجه اللغويّ ، فقد تكونُ استراتيجيتُهُ تصريحيةً تعتمدُ الدلالةَ المباشرة َغيرَ الإيحائية  كالخطابِ الرسميّ الإداريّ والخطاب العلميّ ، وقد تكونُ استراتيجيتُهُ تلميحيةً عمادُها الكنايةُ والترميزُ لتمرير معانيه الضمنيَّة غير الصريحة كالخطاب الأدبيّ التخييليّ  وخطاب التَّعمية والتَّعريض وخطاب التَّورية ، وقد تكونُ استراتيجيتُهُ توجيهيةً حجاجيةً إقناعيةً كالمرافعاتِ القضائيَّةِ والتَّرويج التَّسويقيّ التجاريّ ، وهذهِ الاستراتيجيةُ الأخيرةُ يرتكزُ عليها خطابُ المرشحينَ فِي الانتخاباتِ البرلمانيَّة العراقية لكسب أصوات الناخبين  وإقناعهم بالتصويت  من خلالِ حزمةٍ من الوعود الانتخابيَّة يتمُّ عرضُها بأسلوبٍ حجاجيّ في بلاغةٍ يومية تقدمُ حججاً شبه منطقية تمتزجُ فيها المغالطةُ بالتمويه والتلاعب العاطفيّ بالتضليل ، ولأنَّها فقدتْ شرطَ النزاهةِ بعد فشل التجربة البرلمانية في الحياة السياسية العراقية ، فهي فاقدة لمبدأ التعاون في ضوء مفهوم(بول  غرايس) لشروط الحوار ،فالوعود فاقدة للفعل التأثيري في توجيه الناخبين ، والدليل عزوف نسبة تفوق الثمانين بالمئة ومقاطعتهم للانتخابات الماضية وفقدان حماستهم وعدم اكتراثهم بالمشاركة في الانتخابات لهذه الدورة الجديدة باستثناء الجمهور الحزبيّ للناخبين ، وهو جمهور مُؤدلج مقتنع سلفاً بمرشحيه من دون حاجة لاستنفار أدوات البيان الخطابية لتوجيهه. وعلى الرغم من ذلك تشكل صفحات الفيس بوك  منصة لخطابات المقاطعين وخطابات المرشحين والإعلان عن حملاتهم الانتخابية وعرض رؤاهم في التغيير والإصلاح وتقديم الوعود ، ولا تمتلك هذه الخطابات أي فاعلية إقناعية سوى الفاعلية  التنبيهية البصرية للتدليل على أيقونة الكيان الحزبي ورمزه وصورة المرشح ورقم تسلسله في القائمة ، فالبوست الانتخابي بوصفه خطاباً في ضوء خُطاطة (رومان جاكوبسن) تكاد أنْ تنحصرَ وظيفتُهُ الإبلاغيةُ بإقامة الاتصال والتنبيه  وتغيبُ  وظيفته الندائية التأثيرية بينما يشكل خطابُ الجمهورِ خطاباً موازياً ساخراً وناقداً ومفككاً لخطاب المرشحين وينتهج استراتيجية تلميحية في الغالب ،عمادُها التهكّم والسّخريَّة اللاذعة الممزوجة بالعنف اللغوي اللفظيّ الذي يجسّد اهتزاز الثقة وخيبة الأمل بالتجربة الانتخابية البرلمانية ، وتحضرُ فيه المفرداتُ التقييمية المشحونة بدلالة نفسية هامشية تختزنُ الحنقَ والضّيقَ والبرم ، وهي في الغالب  تعليقاتٌ قصيرةٌ في بنائها الجمليّ ويمكنُ الاصطلاحُ عليها بأنها نصوص احادية الجملة ، ففي لحظات الغضب والبرم أثناء المعالجة الذهنيَّة  في تأويل الخطابات المُستفزة يعمدُ الذهنُ إلى إنتاجِ جملٍ قصيرةٍ نسبياً تكاد تنحصر وظيفتها اللغوية بالوظيفية التعبيريَّة التي تنفّس عن ضِيْقٍ وغضب ، وتكونُ عبارةً عن ردّة فعل عفويّ صادق وسريع  . وخطاباتُ الجمهورِ هذهِ تمثلُ خطابَ المُمانعةِ الذي يتحرر من قبضة خطاباتٍ سلطويةٍ  تتوسلُ ببلاغةٍ لفظيةٍ عاليةٍ وحججٍ شبهِ منطقيةٍ ويوظّفُ رمزياتٍ دينية ووطنية وانجازاتٍ وهمية مشفوعة بوعود مستقبلية تستثمرُ بعوز الناس وفقرهم وضيق حياتهم ، مع حشدٍ من الترهيب لما يولده الفراغ الدستوري بغياب الدورة الانتخابية  من منزلق أمني خطير يهدد السّلم الأهليّ  وينذر بالعنف والاقتتال والتقسيم ، كلُّ ذلك يشكّل آليات الهيمنة في خطاب المرشحين ، ففي ضوء المنهج النقدي لتحليل الخطاب  لـ(نورمان فيركلف) وفي ضوء (بلاغة الجمهور) يمكن أنْ يُعدَّ خطابُ الجمهور العراقي  خطاباً تحررياً من إرادة هيمنة خِطاب المرشحين وأحزابهم ، وله آلياتُه اللغويةُ ومفرداتُهُ المعجمية المقيّمة للناخبين ، وله مجازاته واستعاراته  المعبّرة عن تمثلاته للتجربة الانتخابية ، وله استراتيجيته في تشكيل خطابه التحرري الناقد لخطاب المرشحين ، وهذه الاستراتيجية تشكل تقابلاً خطابياً يقف بوجه خطاب المرشحين ويفككه . ويستمد خطابُ الجمهور سلطته النقدية التقابلية  من التجربة المرة  وقيمه الاجتماعية الموروثة التي تمثل مستودعاً لتزويد الخطاب الحجاجيّ  بـ (القيم) الموجهة لمساره الإقناعي في العبور من المسلمة إلى النتيجة من قنطرة تلك القيم التي غالباً ما تجسدها أمثاله وكنايته العامية الشعبية وعباراته المسكوكة ومجازاته الميتة واستعاراته غير الحية بحسب (بول ريكور) .وفي مناهج تحليل الخطاب  يُنظر إلى( بلاغة الجمهور) من خلال مفهوم ( الاستجابة) ، وهي غير (استجابة القارئ)  الجمالية في نظريات القراءة الأدبية عند (ياوس) و(إيزر) التي تقوم على تلقي النَّص ضمن ( أفق التوقع) وقبليات الفهم والتَّأويل ، فـ (استجابة الجمهور) من منظور تحليل الخطاب تنظرُ في الموقف الذي يتخذه جمهور المتلقين من الحمولات الايديولوجية السلطوية تفاعلاً أو إذعاناً وقبولاً أو رفضاً وممانعة أو نقداً ، وقد تكونُ الاستجابة فعلاً معارضاً لا فعلاً قولياً ، وقد تكون الاستجابة استجابةً سلبيةً صامتةً . ونواةُ (بلاغة الجمهور) شكَّلها مفهومُ (رجع الصدى) للمرسلة اللغوية في الحقل الإعلاميّ الذي يهتم  برصد ردود أفعال الجمهور إزاء بثّ محتوى إعلاميّ ، ولكنَّ الفارقَ الكبيرَ أنَّ تحليل (بلاغة الجمهور)  ينطلق من رصد فاعلية خطابات الهيمنة وأثرها في الجمهور واستجابة الأخير ، فخطاباتُ الهيمنة تعمل على تنميط الأفكار وتشكيل المواقف وخلق الأتباع للوصول إلى السلطة ، وهي أيضاً تعتمد سلطة  اللغة والايديولوجيا فيْ بثِّ أفكارها .ومن الجدير بالذكر أن هذا المنهج (بلاغة الجمهور) يُعد امتداداً لتيار (البلاغة الجديدة)  وقد عرف طريقه في الدراسات العربية ولا سيما في تحليل الخطاب السياسيّ  منذ أكثر من عقد ، ومن أبرز رواده العرب الباحث المصري (عماد عبد اللطيف) في إسهامه في الترجمة  وجهوده التنظيرية في تطوير المنهج وتطبيقه في تحليل الخطاب السياسيّ للرؤساء المصريين ، وتحليله لاستجابة المانعة  عند الجمهور المصريّ في كتابه (لماذا يصفق المصريون ) ، و كتابه ( بلاغة الحرية ) الذي تضمن بلاغة الجمهور في الربيع العربيّ وثورة يناير المصرية.

والجديرُ بالذكر أنَّ هذا المقالَ لن يكتفي بالإفادة من منجز الباحث ( عماد عبد اللطيف) في التوفيق بين المنهج النقديّ لتحليل الخطاب و البلاغة الجديدة بصورة بلاغة الجمهور والجمع بينهما ، فالمقالُ سوف يوظف ـ إلى جنب ذلك ـ   أدوات اللسانيات الإدراكية في تحليل الاستعارة التصوريَّة لدى الجمهور العراقيّ ، ويوظف منطلقاتِ لسانيات التلفظ والأدوات التداولية في تحليل الخطاب لما يتيحه حقلُ الخطاب من تضافر منهجيّ  لمعارف بينية تشفُّ عن (بلاغة الجمهور العراقيّ) وآليات خطاباته في الممانعة ، وتصنيف استجاباته اللفظية المختلفة.

 وغالباً ما تكونُ (بلاغة الجمهور)  واحدة من أهم السبل لقياس الرأي العام واستطلاع رأيه إزاء حدث ما ، ومصاديقها استجاباتهم المختلفة الموازية لخطابات السلطة السياسية والسلطة الدينية وخطابات الترويج الإعلاني التجاري وأهدافه التسويقية ، ومن غير الصحيح أنْ يجري النظرُ إلى استجابة الجمهور  من عينة واحدة وتلخيصه باستجابة معينة ، فبلاغة الجمهور  العراقي هي استجابات شتى لا استجابة واحدة ، فهناك استجابة حزبية مؤيدة ، وهناك استجابة انتخابية  حزبية رافضة داعمة لمرشح آخر وقائمة أخرى ، وهناك استجابة مقاطعة مُؤدلجة  ،  وهناك استجابة مؤيدة غير متحزبة وهي قليلة جداً ، وهناك استجابة رافضة مقاطعة غير متحزبة وغير مؤدلجة تصدر عن فقدان ثقتها بالناخبين وعدم جدوى العملية السياسية ، وهذه الاستجابة الأخيرة  سيتخذها هذا المقال موضوعاً في تحليله البَلاغيّ لاستجابات الجمهور وتعليقاته في صفحات الفيس بوك  في شهر تشرين الأول من عام 2025 . وهذا التاريخ يسبق موعد إجراء الانتخابات بشهرٍ واحد  . والجديرُ بالذكر أنَّ الاستجابة المؤيدة تقوم على الثناء والمديح وتقديم سلم حجاجي تتسق فيه الحجج بروابط لتنتهي بنتيجة كون المرشح يستحق التصويت له لما قدمه ، بينما الاستجابة غير المؤيدة للمرشح تنتهج عكس ذلك .

ومن تجليات  بلاغة الجمهور العراقي ألفاظه واختياراته المعجمية ، فالجمهورُ العراقيّ يستعمل مفردة(لاحوك) على وزن (فاعول) ، وهو من أوزان اللغة السريانية الذي اقترضته اللغة العربية  الفصحى في إحدى مراحلها التأريخية ، ويشيع كثيراً في العامية العراقية بقلب القاف كافاً من( لحق) بالشيء  واتبعه ، فالأصل هو (لاحق) من اسم الفاعل التي تقابل دلالياً مفردة (سابق) ، و(لاحوق) في العامية العراقية فيها معنى المبالغة ، وهي من أكثر المفردات التي تشيع على لسان الجمهور في نقد وتحقير  من يؤيد مرشحاً انتخابياً  معيناً تزلفاً وطمعاً بوعوده النفعية غير البرامجية  ، وفيها معنى استعاريّ اتجاهيّ من منظور  الاستعارة التصورية الفضائية( الاتجاهية)  في اللسانيات الإدراكية ، وكأَنَّ الانتخاباتِ تمثّلُ سباقاً ، وهناك اتجاه  وهناك من يسير في اتجاه ما ،  وهناك من يلحقه . و هذه الاستعارة استعارة تواضعية غير إبداعية في ضوء مفهوم( جورج لا يكوف) للاستعارة التصورية  ،  ويقد يُقال عن جمهور المرشح المؤيدين (لواحيق) على وزن (فواعيل) والمفردة مشحونة بدلالة هامشية سلبية تقييمية في تحقير النفعيين والوصوليين المتملقين .

وَفيْ معرض انتقاد الجمهور لوسائلِ الجذبِ الماديَّة التي يقدمها المرشحونَ لكسبِ الأصواتِ وتنافس المرشحين في المبالغ التي يدفعونها لشراء البطاقاتِ ــ  أقولُ في معرض ذلك ــ يظهرُ تعليقٌ ساخرٌ من بين تعليقات الجمهور الكثير ة  ، وصاحبُ التعليقِ يخاطبُ  الشخصَ الذي نشرَ المنشور المتهكم بأحد المرشحين الدافعين للمبالغ الكبيرة (  ما اتدليني عليه خل ايطبكلي السطح كاشي ويشتريلي  زوالي للشتة والله العظيم حتى املطخ راسي بالحبر مو بس اصبعي اله) ، وفي التحليل النفسيّ لسايكولوجية اللاشعور الجمعي تمثل النكات منفذاً لتنفيس الرغبات المكبوتةــ في تصور فرويد ـ وتشف عن باطن الشخصية ودوافعها الحقيقية،  فهذهِ العبارةِ الأخيرةِ وإنْ كانت صورةً كاريكاتوريةً ساخرةً في رسم من يلوث ملابسه وجسده بالحبر الانتخابي ويدخل رأسه برمته في المحبرة  وليس أصبعه ، وهذا أمرٌ محال منطقياً إلا أنَّه يعكسُ تردي الواقع الاجتماعيّ وافتقار جملةٍ من الناس لأبسط مقوماتِ الحياة ، وهو المأوى الآمن الصالح للسكن ، وافتقارهم للفرش اللائق الذي يقيهم البرد ، وهذا ما يدفع بعض الجمهور لتلقي رشى الناخبين . وهناك تعليق آخر على المنشور نفسه  وعلى شخصية المرشح نفسه ( هذا مرجان أحمد مرجان العراق) في دلالة رمزية  تشبيهية موفقة ومختصرة وواضحة على أنَّ المالَ الفاسد يشتري المواقع الاجتماعية المختلفة ومن بينها المقعد البرلمانيّ، فهذه الشخصية السينمائية التي صورها أحد الأفلام السينمائية المصرية تمثل شخصية انتهازية ، والفلم  يحملُ اسمَ البطلِ نفسه ( فلم مرجان أحمد مرجان) الذي جسّده الفنان (عادل أمام ) ويصور واقع الفساد الذي ينخر في جسد المجتمع ويفتك بمؤسساته مما يتيح لرجل أعمالٍ فاسدٍ أنْ يشتري ويرشو الموظفين للحصول على الشهادة الجامعية والحصول على الاستثمارات المالية والظهور بمظهر النجومية الإعلامية  والرياضية والإطلالة بوجه ثقافيّ في انتحاله للشعر  والظهور بمظهر الوجاهة الاجتماعيَّة في تقديم المساعداتِ الخيريَّة للمحتاجين إلى أنْ يتمكنَ من الفوز والوصول إلى البرلمان من خلال شراء الأصوات واستغلال حاجة الناس ، فالمال بوسعه شراء كل شيء!  فالاسم يتضمن دلالة رمزية تستحضر حبكة الفلم وجدليتها ويجرى إسقاطها في بلاغة الجمهور على المشهد العراقيّ الحاضر ، فهناك (مرجان احمد مرجان عراقيّ) مثلما هناك (مرجان أحمد مرجان المصريّ) ؛  في تهكّم واضحٍ يحقق الاختصارَ ويتيح للمتلقي فسحةً من التأويل في تَمَثُّلِ خُطاطةِ الفلمِ وإسقاطها على واقعه ، فبلاغة الجمهور قائمةٌ على الإيجاز والتكثيف الشديد الذي يضمن الثراءَ في الإيحاءِ والتَّأويلِ .

 ويوظفُ  الجمهورُ العراقي المثل الذي يلخص تجربة اجتماعية  تنطوي على حكمة وتمثل مسلمة من مسلمات الجمهور وعقله الجمعي ، وتمتلك  الأمثال فاعلية حجاجية في حسم الكثير من القضايا ، فلنقد جدوى العملية الانتخابية يضربُ الجمهورُ  مثلا للمقتنعين بالانتخابات والمرشحين ( يمدح السوك من يربح به) ، ولعدم جدوى الانتخابات يضرب المثل ( اللي مطرت لو غيمت شمحصل العاكول) ، ويُضرَبُ لعدم الجدوى أيضاً المثلُ ( ذيج الطاس وذاك الحمام) ، وللكناية عن سلبية الجمهور وسكوتهم  المؤدي لتمادي البرلمانيين والسياسيين (سكتناله طب بحماره) ، ومن  يستغل الجمهور من المرشحين يُكنى عنه بالمثل ( ياكل وية الذيب ويبجي وية الراعي ) ، وهو من الأمثال التي تضرب للنفاق السياسيّ وخداع الجمهور واستخدامه ، فبعد الفوز سيصطف مع الفاسدين من الطبقة السياسية،  وفي انتقاد المرشح الذي يستغل أصوات دائرته الانتخابية ولكن انجازاته تصبُّ فيْ مناطق  ثانية لغير جمهور منطقته يستشهد الجمهور بالمثل الدراج ( حمام الكاظم  ياكل هنا ويضرك هناك ) .   وتتنوع تعليقات الجمهور إزاء صورة مرشح معلقة على ساق نخلة مرتفعة في بوست على إحدى صفحات الفيس بوك وقد الحقت  بتعليق ساخر( منو يعرف هذا المرشح خستاوي لو برحي) ؟ كناية عن انتمائه الحزبي و مدى صدق وطنيته ، فتوالت التعليقات  في وصفه  وتسميته بأنواع التمر الرديئة مثل ( شيص/ موخوش رطب/ زهدي ) .ومن العبارات التي تدل على البرم (منو صاح نازل)  ، وسياقها الوضعي الأول يُسْتعمَلُ في النزول من الباص بسب ضيق الراكب بشخص قد لا ينسجم معه ،  فهذه العبارة تستعمل تهكماً إزاء وعود أحد المرشحين  . وهناك عبارات دالة على التحدي وتفاقم مشاكل البلد العصية على الحلول ( من تفوز رجع للناس خور عبدالله) ، ويتهكم الجمهور  بمفردة (عالم الفضاء) إزاء تحذلق المرشح في رؤيته لحل المشاكل ومعالجاته المستقبلية المقترحة ( ما ندري بهاي السالفة نشكرك يا عالم الفضاء) ، وينتقد الجمهورُ تظاهرَ المرشحين بالوطنية فتلجأ إحدى التعليقات إلى استعارة إدراكية تصورية ، وهي عبارة عن استعارة الوعاء والمحتوى ( امفولين وطنية )،  فـ ( التفويل) هو امتلاء الخزان بالوقود  ، والاستراتيجية التلميحية في الخطاب تؤشر الى دلالة ضمنية عكسية بمعنى خلوهم من الوطنية تماماً .  وفي إحدى جمل الجمهور المتهكمة ( بميزان جذبك إن شاء الله) وفيها إبدال للفظ (الحسنات) ليحل محله( الكذب) فهي  في الأصل من عبارات الدعاء والامتنان ، واستعملت للتهكم بوعود المرشحين . ومن عبارات الجمهور المتهكمة في تكلف المرشحين للتواضع ( ايباخ اشكد متواضع جيفارا) ، وهناك تعبير عن برمهم في الحاح المرشحين والمبالغة في الوعود الزائفة ( شخبصنا رونالدو) ، ومن الصور الكاريكتورية المتهكمة بطريقة لاذعة التي تصور تخلي المرشحين حال فوزهم عن وعودهم للجمهور عبارة ( انت لابس السطمبة من هسة حتى من توصل تبصم قبل الكل)  0 والسطمبة  مفردة دالة على التحبير الذي هو من لوازم الختم  وهي لا تلبس ولكن سياق التهكم اللاذع قد جعلها رداء يُلبس بمعنى التهيؤ والاستعداد للتخلي عن الوعود . وأبرز التعليقات الساخرة من وعود المرشحين عبارة ( من يكمل البتلو) بمعنى حينما يشارف اكتمال أساس المنزل( البتلو) الظاهر؛  في دلالة على التكذيب والتهكم  ، فالمرحلة الأولى لبناء البيت هي من أسرع المراحل  كناية عن القرب ولكن القصد التهكمي  منها هو أنه أمر بعيد ، ونظير ذلك عبارة ( الصبح الصبح من يعوعي الديج) ، فصياح الديك أمر يومي ومشهد مألوف وعادةً ما يُضرب الصبح مثلاً لقربه كقوله تعالى ( إن موعدهم الصبح . أليس الصبح بقريب)  ، ولكن المعنى القصدي في دلالة الجمهور هو أنه أمر بعيد لعدم صدق الناخبين ، ونظير ذلك ( آني بالنسبة إلى أصدكك بس أشوف واقنع عمامي) فالعبارة تناسب قضية شخصية وخصاماً أسرياً ولا تناسب تعليقاً على كلام مُرشحٍ ولكن دلالتها الضمنية غير الحرفية تتضمن قصدية السخرية  ، ونظيرُ هذا أيضاً عبارة ( غطو .. غطو)  في تكرار فعل الأمر ( في الطلب لدثار المرء المريض ) تعليقاً على وعود تفوه بها أحد المرشحين ، فسياقها التداولي  الوضعي يلائم المريض أو الطفل الذي استيقظ فزعاً بسبب البرد ، فإحالتها تشير إلى الشخص الذي يستحق الإشفاق كونه يهذي ، فكأن كلام المرشحين ـ في ضوء مفهوم الاستلزام الحواريّ ــ هو عبارة عن هذيان فاقد للإعلامية والتأثير . وترد مفردات البناء والإعمار كثيراً في دعاية المرشحين ،  وواحدة من عبارات الجمهور الساخرة الناقدة على حديث البناء ( اتلاثة وعشرين سنة مالكيتو خلفة يبنالكم) . و في بعض استعارات الجمهور تمثل لعبة كرة القدم  وفي ضوء الاستعارة التصورية الإدراكية مجالاً تصورياً مصدراً  يجرى إسقاطه على المجال موضوع الخطاب الذي يتمثله  الجمهورــ  أي المجال الانتخابي الهدف ــ  ويعكس تصورهم عن هيمنة الكتل الحاكمة وعدم جدوى المقاطعة وعدم جدوى المشاركة في الوقت نفسه (يلعبون علينا تك كول والحارس ما موجود). وفي بعض الاستعارات التصورية القائمة على إسقاط صورة على صورة ثانية في تمثيل إعادة إنتاج الطبقة السياسية الفاسدة وتكرار التجارب السابقة نفسها،  يتمثل الجمهورُ الانتخاباتِ مشهداً مسرحياً خاضعاً للإنتاج في استعارةٍ تصورية نصُّها ( هية هية نفس  الفلم والمسرحية ماحاجة نتابعهة للنهاية) . ويستعملُ الجمهورُ كثيراً من العبارات الصادمة غير اللائقة نحو : ( ترة ما يصير كل عشرة مرشحين ابتيل انريد  تيل ابكل مرشح) ، وهذه العبارة من عبارات التورية  التلميحية الخادشة للحياء العام  التي تنتهك المحظور اللغوي الاجتماعي والتي تصبُّ فيْ خِطاب الكراهية فيْ نقد الجمهور لتزاحم صور المرشحين في الشوارع بنحو مبالغ فيه .  والحق أنَّ منْ غيرِ الصحيحِ مساواةُ الأدبِ النخبويّ من حيث الجمالية وأساليب البلاغة ببلاغة الجمهور ، فالأخيرة لا تضاهي الأدبَ النخبويّ ، ففيها من الإسفافِ والابتذال والاستعاراتِ التواضعيَّة والمجازاتِ الميتة غير الحية الشيءُ الكثيرُ ،  صحيح أنها تشتمل على اليقظة والتحرر من هيمنة الخطابات السلطوية  ولكن بلاغة الجمهور العراقي مشحونة بخطاب الكراهية والعنف الرمزي ، وهذا مما يُؤسفُ لَهُ ، وفيها من المعاني التي تنذرُ بالخطر في انقسام الشَّارع وتدني ذوقه بنحوٍ ملفتٍ للنظرِ ، ولكن دراسة بلاغة الجمهور تبقي تمثل مَجسّاً للتعرف على استجابته للخطابات السلطوية الفوقية وقياس الرأي العام . وإذا كانت الكثير من الدراسات قد التقطتْ جمالياتٍ بلاغية عند الجمهور فيْ حِراك الرَّبيع العربيّ ولا سيما بلاغة الجمهور العراقي في ثورة تشرين إلا أنَّ منشأ ذلكَ هو وجودُ فواعل نخبويَّة مثقفة امتزجتْ بالجمهور وأَسْهمتْ  فِيْ إنماءِ ذائقة الجمهور ورفعِ وعيهِ ، وأَسْهمتْ في الحِراك والتَّنظيم من خلال الرموز وابتكار الاستعاراتِ والخطاباتِ المتحررة التي تبناها الجمهورُ ،  فمن غيرِ الصَّحيح مساوةُ النخبويّ ببلاغة الجمهور فِي المنحى الجمَاليّ والذوقيّ والرؤيويّ.

باحث وتدريسي في جامعة بغداد / كلية التربية للبنات      


مشاهدات 109
الكاتب كريم عبيد علوي
أضيف 2025/10/19 - 3:03 PM
آخر تحديث 2025/10/20 - 1:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 67 الشهر 13080 الكلي 12152935
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير