استنفاد النقد وتجديد العلوم الإنسانية
عادل الثامري
تواجه العلوم الإنسانية ، في الأكاديمية المعاصرة، أزمة مزدوجة: إحداهما مؤسسية، والأخرى فكرية. فقد شكّل تراجع اعداد الطلبة ، وتقلّص الأقسام، والهيمنة المتزايدة للتعليم القائم على المهارات ضغطًا على التخصصات المكرّسة تاريخيًا للتأمل والتأويل. ان الصعوبات التي تواجه العلوم الإنسانية هي صعوبات خارجية وداخلية، متجذرة في ضعف شامل للبراديغمات النقدية التي طالما هيكلت البحث الإنساني. فما كان يعمل في السابق كشكل راديكالي من اشكال المقاومة الفكرية بات يبدو في أحيان كثيرة عادة تكرارية ذاتية الإحالة و أداء آلي للنقد. وحين يصبح النقد عادة وليس استكشافاً، تخاطر العلوم الإنسانية بفقدان شرعيتها وكذلك قدرتها على تشجيع الانخراط الفكري والأخلاقي.
مَأْسَسَة النقد
يلاحظ جوناثان كولر (2007) أن "النظرية" لم تعد مجرد حقل فكري، وانما نمط قراءة، يشكّل الخطاب الأكاديمي والممارسة التربوية على حد سواء. وعبر عقود من المَأْسَسَة، تصلّبت المناهج التي نشأت من الثورات الفكرية للبنيوية والماركسية والنسوية وما بعد الكولونيالية لتصبح مساقات او نمطيات تعليمية. لقد ولّدت، كما تصف إيف كوسوفسكي سيدغويك (2003)، "تأويلية الشك"—موقفًا تأويليًا يمنح الأولوية لكشف المعاني الخفية، وفضح التناقضات الأيديولوجية، وعدم الثقة بالجوانب السطحية. لقد كانت عادات الشك هذه في السابق فاعلة وضرورية سياسيًا، الا ان ترسّخها قد أضعف، بشكل مفارق، حيويتها.
مع تحوّل النقد إلى موقف مبدئي مهيمن للجدية الأكاديمية ، غدت عملياته الفكرية والتأويلية أكثر قابلية للتوقع . اذ بات فعل التأويل نفسه محكوما بسلسلة من الاجراءات الكاشفة المحددة سلفًا: من قبيل تعيين انماط السلطة أو البنى الايديولوجية او اليات الاقصاء، باعتبارها الحقيقة المضمرة في النص. وبهذا التحول، ما كان يعد في السابق منهجا تحليليا ينطوي على مجازفة فكرية، اصبح مهددا بالانزلاق الى ممارسة طقسية اقرب الى التعرف المسبق. وفي ظل هذه الشروط، تبدأ الصرامة الفكرية بفقدان تميزها النقدي، لتغدو غير قابلة للانفصال عنموقف نفي دائم يعيد انتاج ذاته.
النقد بعد الحداثة
هذا الانهاك او الاستنفاد يُلخَّصه برونو لاتور (2004) بقوله اننا "لم نكن حداثيين قط". لا يدعو لاتور الى التخلي عن الفكر النقدي ، بل يؤكد على أن الموقف النقدي الحداثي—المرتبط بإزالة الغموض والكشف —قد استنفد قوته التأويلية الخاصة. وبهذا المعنى ، اصبح النقد، بارعًا في تفكيك ادعاءات الحقيقة أو السلطة، وفي الوقت نفسه بقي عاجزا وبشكل غريب عن تقديم ما قد يحلّ محلها. فنجاحه في التفنيد لم يقابله قدرة مماثلة على بناء أشكال جديدة من المعنى أو الارتباط أو المسؤولية.
يمكن لهذا الاختلال، في العلوم الإنسانية، أن يعزز مناخًا من الانفصال. فالكشف المتكرر عن النصوص باعتبارها منتوجات أيديولوجية قد يولّد تطورًا فكريًا ووعيا نقديا في البداية، لكنه قد يُنمّي أيضًا الملل والاحباط، بل وحتى التشاؤم. في العديد من السياقات التعليمية، لا يواجه الطلبة الأدب والفن بوصفهما انخراطا حيّا في التجربة الإنسانية، بل بوصفهما مجموعة أنظمة مُرمَّزة تنتظر فك شفرتها. ويخاطر التأويل بأن يتحول الى تمرين في الشك والارتياب ومساءلة طرائق التمثيل، وليس مواجهة للتعقيد، أو الغموض، أو الإمكان.
أزمة العلوم الإنسانية
يتزامن هذا الانهاك الفكري مع التهميش الاقتصادي والثقافي للعلوم الإنسانية داخل الجامعة النيوليبرالية. وكما تلاحظ ريتا فيلسكي (2015) في كتابها حدود النقد، فإن التخصصات الإنسانية مسكونة بأزمة شرعيتها الخاصة، مُجبَرة على تبرير نفسها في بيئة مؤسسية تُخضع المعرفة لمقاييس قابلية النفعية والإنتاجية والنتائج القابلة للقياس. وباتت المعرفة تُقيَّم بشكل متزايد بمدى المنفعة الانجازية— قابليتها على التوظيف أو التسليع أو التطبيق الفوري. وعلى خلفية هذا المشهد، يمكن ان يبدو الفعل التأويلي والأخلاقي والجمالي للعلوم الإنسانية غير فعّال ( فاقد للأثر المباشر) أو منغمس في الذاتية.
ومع ذلك، لا يمكن فصل هذه الأزمة المؤسسية بشكل كامل عن ظاهرة استنفاد النقد نفسه. فالتخصص الذي يعرّف رسالته أساسًا من منطق الرفض والمقاومة قد ينجح في اكساب ذاته شرعية اخلاقية. ولكن القراءة ستتحول الى فعل يقتصر على إماطة اللثام والى ممارسة دفاعية، وعندئذ تخاطر العلوم الإنسانية بأن تُفهَم كمواقع للتوسع التخيّلي أو التأمل الأخلاقي، و في الوقت عينه كمعسكرات تدريب للتشكيك وحده. في مثل هذا التكوين، يصبح النقد القوة المعرفة للعلوم الإنسانية وأفقها المُحدِّد في الوقت نفسه.
ما بعد الشك: نحو علوم إنسانية ما بعد نقدية
ان التفكير في مآل العلوم الانسانية لا يكمن في التخلي عن النقد، بل في إعادة ادماجه في منظومة البحث الإنساني ضمن افق اوسع. فالمنعطف ما بعد النقدي الذي تدعو إليه ريتا فيلسكي يسعى الى تجديد الاهتمام بالأبعاد الوجدانية والجمالية والعلائقية للقراءة—أي تلك المقاربات التي تنظر الى النصوص بوصفها فضاءات للارتباط والتعرف والتحوّل، وليس موضوعات للتحليل فقط. ومثل هذه المقاربة لا تتنازل عن الوعي السياسي أو التخلي عن الصرامة النظرية؛ بل تقرّ بأن النقد هو نمط واحد من بين عدة أنماط من الانخراط الممكنة.
وعلى هذا الأساس، تطرح سيدغويك فكرة القراءة الترميمية او التصالحية نموذجًا بديلا يقوم على الفضول والاهتمام والانفتاح. تتعلق الممارسات الترميمية بمّا تجعله النصوص ممكنًا، وكيف تدعم المعنى، ولماذا تستمر في أن تكون مهمة. من الناحية التعليمية، قد يعني هذا دعوة الطلبة للتأمل في كيفية تجاوب النصوص مع تجاربهم الخاصة، أو التزاماتهم الأخلاقية، أو آفاقهم التخيّلية إلى جانب التحليل النقدي وليس عوضًا عنه. وبهذا يصبح التأويل فعل كشف وفعل تعلق واستجابة.
خاتمة
ان استنفاد النقد وأزمة العلوم الإنسانية يرتبطان مع بعضهما ارتباطا وثيقا. ويعكس كلاهما حدود نمط فكر نسي قدراته التوليدية. ان تجديد العلوم النسانية يقتضي اعادة النظر في انماط القراءة التي تقوم بتنميتها و شرعنتها داخل الحقل الاكاديمي. فبدلا من ترسيخ صورة القارئ على انه ذات مشككة لاترى في النص سوى بنى الهيمنة والتضليل المضمرة، يمكن تصور قاريء اكثر انفتاحا ، يجمع بين الحس النقدي والاستعداد للتأثر والانخراط. ومن شأن هذا التحول أن يعيد للعلوم الانسانية قدرتها على انتاج معنى مشترك، وعلى اقامة صلة حيوية بين المعرفة الاكاديمية وأسئلة الوجود الانساني اليومية، من غير التفريط بالصرامة النظرية و الوعي التاريخي.