الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ذاكرة مدينة وضمير شارع

بواسطة azzaman

نقطة ضوء

ذاكرة مدينة وضمير شارع

محمد صاحب سلطان

 

تعد المقاهي الشعبية علامات فارقة، تتوشح بها المدن الأصيلة والتاريخية، وبهذا تصبح شاخصا يشار لها بالبنان كلما ذكرت تلك الأماكن، كملمح ثقافي وحضاري، فهي ليست مجرد مكان لشرب الشاي أو القهوة فحسب، بل فضاء رحب للحكاية بذاكرتها الجمعية في السياسة والأدب والشعر والفنون، على الرغم من كونها مكانا ربما يكون صغيرا على تجمع بشري مرتاد، وأغلبها تتوسط المدن، وقد تأخذ شهرتها من شخصية مرتادها، على سبيل المثال لا الحصر، مقهى الفيشاوي التي إرتادها نجيب محفوظ وكبار المثقفين في القاهرة، ومقاهي الروضة والكمال وهافانا في دمشق، ومقهى فوانيس والسنترال بعمان، ومقهى المودكا في بيروت ومقهى الباشورة في القدس، ومقهى المربع في تونس ومقهى باليما في الدار البيضاء، أما في بغداد، فالخصوصية تزداد عمقا نظرا لوجود أماكن إرتبطت بمواقف وأحداث سياسية وأجتماعية، شكلت نقاط إرتكاز لتلك الأحداث فكانت خير شاهد حفظ تراثها، منها مقهى الزهاوي في شارع الرشيد والتي سميت تيمنا بالشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي، الذي كان يرتادها ويلتقي محبيه ومريديه وحتى منافسيه في صدارة المشهد الشعري آنذاك مثل الشاعر الكبير معروف الرصافي، الذي حظي بمكانة عالية في نفوس عشاقه، فخلدته بغداد بساحة سميت بإسمه توسطها تمثاله الشهير، وكذلك مقهى حسن عجمي، ومقهى البرلمان، ومقهى أم كلثوم المطل على ساحة الميدان في الباب المعظم، الذي كنا نرتاده ونحن طلبة جامعيين، يضرب بنا هوى العشق الشبابي وهوس التزود بنسائم مودته، من خلال الصوت الخالد لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي سبق وإن زارت بغداد وتعلقت بجدائل دجلتها، فكنا نزاحم رواده الذين كانوا ينظرون إلينا بإستغراب، لحركتنا غير المنضبطة مع إيقاع السكون والسلطنة، التي إعتادوها عند السماع لصوتها الساحر من تسجيلات أجهزة باتت جزءا من التراث، مقرونة بدخان الأراكيل المنبعث من حشاشة، حرقتها نسائم الشوق وآهاته، بذكرياتها الحالمة، حتى بات الجميع، كل يغني على ليلاه!، ثم ننتقل إلى ماهو أبعد مكانا ولكن على ذات الطريق، ندلف سوقا مفتوحة لبيع الكتب،لنشهد مزادات بيعها وخصوصا كل جمعة، على صوت الكتبي نعيم الشطري وغيره من الباعة الموزعين على جانبي أرصفة (شارع المتنبي)، المكان الأشهر ثقافيا ببغداد، للوراقين وصانعي الأختام وباعة الأحبار وتجار الورق، حتى نصل إلى محطتنا المنشودة (مقهى الشابندر)، ملتقى الشخصيات البغدادية والضيوف القادمين من أصقاع الأرض، بتقاليده العريقة، وإدارته الحانية على زبائنه من صحفيين وشعراء وأدباء وسياسين ومثقفين، حتى تحول إلى أيقونة ومحطة إستراحة لكل زائر وباحث..

عموما، مثلت تلك المقاهي أرشيفا غير مكتوب لذاكرة جماعية، فضلا عن كونها منبرا ثقافيا مهما، فمن رحمها خرجت الكثير من القصائد والحركات السياسية والأدبية،التي شهدت العديد من النقاشات والصراعات والمواقف الوطنية والفكرية، وفيها تتلاشى الفوارق الإجتماعية، لذلك لا تمثل تلك الأماكن بنظر الكثيرين ممن تناولوا شأنها، مشاريع تجارية فحسب، بل هي ذاكرة مدينة وضمير شارع، ودفتر حكايات مفتوح، ولإجل ذلك لا بد من رعايتها ودعمها حكوميا وشعبيا، والإعتراف بدورها كتراث ثقافي، فضلا عن تشجيع الشباب على إرتيادها من خلال إحتضان مبادراتهم في التوثيق وإبراز المواهب والمشاركة في أنشطتها الثقافية، وهذا ما نأمله من الجهات المختصة مستقبلا..

 

 


مشاهدات 53
الكاتب محمد صاحب سلطان
أضيف 2025/12/20 - 12:04 AM
آخر تحديث 2025/12/20 - 1:34 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 74 الشهر 14417 الكلي 12998322
الوقت الآن
السبت 2025/12/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير