انفصال الوطنية عن الدولة… الجذر العميق لازمة العراق
خالد محسن الروضان
تعيش شريحة واسعة من المجتمع العراقي اليوم حالة من العزوف عن الدفاع عن الدولة، وليس عن الوطن. وهذه المفارقة ليست قبولًا بالاحتلال، بل نتيجة طبيعية لـ انفصال الوطنية عن أيديولوجية الدولة، وفقدان الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم التي تحوّل كثير منها إلى أدوات سلطوية بيد القوى السياسية.
لقد أصبح الصدام واضحًا بين القوى المؤسسية التي يُفترض أن تمثل الدولة، وبين القوة الاجتماعية–الحزبية التي تمسك بمفاصل الحكم. فالأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة — في سلوكها السياسي — لا تعترف حتى ببقية الشيعة خارج إطارها، وتعمل على إقصاء كل مخالف لها، تحت شعارات مثل الأغلبية الشيعية أو الحاكمية الشيعية، في تبرير يشبه خطاب "الأخ الأكبر" و"أم الولد".
وهذا النهج يتعارض بالكامل مع جوهر الديمقراطية التي تقوم على الحكم بالتراضي واحترام الأقلية وعدم مصادرتها مهما كان حجمها.
منطق القوة… من صدام إلى ما بعد 2003
الفكرة الخاطئة التي رسّخها البعض بأن "العراق لا يُحكم إلا بالطاغية" ليست سوى وهم. فالتجارب السابقة أثبتت أن حكم الفرد يولّد الانقسامات والعنف، ويقود إلى انهيار الدولة.
في ثورة 17 تموز، اعتمد صدام حسين على القرابة الحزبية والأمنية، ثم حوّل الدولة إلى ملكية خاصة. وفي 1979، أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية والقائد العام في اجتماع قاعة الخلد، مستندًا إلى القوة لا إلى الدستور أو المؤسسات. وهكذا أصبح صدام هو العراق، والعراق هو صدام.
فجاءت النتائج كارثية: حروب مدمرة، انهيار الاقتصاد، تآكل الجيش، وتفكك المجتمع.
هذه السياسات خلقت انفصالًا بين الوطنية والدولة، فحين سقط النظام عام 2003، لم يتصدَّ أحد للدفاع عنه؛ لأن الدولة لم تكن تمثل الشعب.
ويحضرني هنا المثال الشهير عن الفلاح الذي استُدعي للتجنيد في عهد ياسين الهاشمي، وحين قيل له: "عليك الدفاع عن الوطن"، أجاب:
"الوطن؟ أي أرض أدافع عنها وأنا لا أملك منها شبرًا؟"
من الدولة الأمنية إلى دولة الميليشيات
حاول النظام السابق لاحقًا ترميم شرعيته عبر "الحملة الإيمانية" وفرض مظاهر دينية رغم أن حزب البعث علماني. لكنها كانت مجرد مكياج سياسي لتجميل الاستبداد، ما يعكس إفلاس الدولة في كسب رضا الناس.
واليوم، وبعد 2003، تتكرر المأساة بشكل جديد:
القانون غائب
المؤسسات مُعطلة
نتائج الانتخابات تُهمّش
استحقاقات الشعب تُلغى
الميليشيات تحسم بدل الدولة
فأصبح من يحكم ليس الدستور، بل قوة السلاح، وأصبحت إرادة الشعب مجرّد تفصيل صغير يمكن تجاوزه عبر التوافقات والصفقات، في تكرار واضح لدورة "الرجل الواحد" ولكن بثوب جديد.
النتيجة: دولة تتآكل… وشعب يبتعد
إن استمرار هذا النهج يعني أن العراق يعيش في بلاء اللادولة؛ حيث السلطة أقوى من الدولة، والحزب أقوى من القانون، والميليشيا أقوى من الجيش.
والحقيقة التي يجب أن تقال بصراحة:
الميليشيا لا تبني دولة… بل تهدم ما تبقى منها.
وبدون إعادة الاعتبار للدستور، واحترام نتائج الانتخابات، وتجريد الأحزاب من السلاح، وإعادة ربط المواطن بأرضه ومؤسساته، سيظل العراق يدور في حلقة مفرغة من الفوضى والانقسام.
العراق لا يحتاج إلى طاغية، ولا إلى وصاية حزبية أو ميليشياوية، بل يحتاج إلى دولة… دولة فقط.
دولة يثق بها المواطن، ويشعر بأنها تمثّله، وتستحق أن يُدافع عنها.
وحتى يتحقق ذلك، يجب أن نستعيد القاعدة الذهبية:
القانون فوق الجميع… ولا سلاح إلا سلاح الدولة