أذن وعين
العراق.. البقاء في المربع الأول
عبد اللطيف السعدون
أستعيد حوارا دار بيني وبين أكاديمي عراقي يعمل في الولايات المتحدة، قبل أكثر من عقد، عما يمكن أن تؤول إليه الأمور في بلادنا، بعد أن طفح الكيل، وساءت المقاصد لدى حكامنا الذين جاءت بهم واشنطن، وباركتهم طهران. يومها، كان الحديث عن انسحاب الجيوش الأميركية الغازية، وتسليم السلطة إلى العراقيين، قال لي إن واشنطن لن تترك العراق أبدا، حتى وهو وسط هذا الخراب، لأنه الدجاجة التي تبيض ذهبا، ولأن هذا الخراب نفسه الذي صنعته هي قد يشكّل سببا آخر لكي تبقي على سيطرتها على البلاد، مرة بحجة إقامة الديمقراطية، وأخرى بحجة حماية العراقيين من الإرهاب، وثالثة بحجة مساعدتهم على إعادة الإعمار، ورابعة وخامسة إلى أن تهرم الدجاجة، وتكف عن أن تبيض ذهبا، عند ذاك سوف يفكّر الأميركيون في ترك البلاد لأهلها، لكن البلاد عندئذ لن تعود «بلادا»، سوف تصبح «محمياتٍ» صغيرة، ليس لها حول ولا طول.
تفوق خبرة
وأضاف محدّثي أن الأميركيين أصبحت لهم خبرة ودراية في أمورنا، تفوق خبرة (ودراية) الحكام الذين جمعتهم من الأزقة الخلفية لعواصم الغرب والجوار، ونصّبتهم علينا في غفلةٍ شريرةٍ منا، وهم كلما شعروا أن أمور البلاد قد ساءت وتفاقمت عمدوا إلى تغيير الوجوه الحاكمة، وأحيانا إلى تجميلها وإعادة إنتاجها، كي ترضي الناس، وتجعل من الأميركيين منقذين دائما.
أردف محدّثي: «لا تستعجل، فمن عادة الأميركيين أن يطبخوا طعامهم على نارٍ هادئة في أفران إلكترونية عصرية، تعتمد على ترويض عنصر الزمن، تلك خصلةٌ معروفةٌ عنهم، لا يتفوق فيها عليهم إلا الإيرانيون الذين يحيكون سجادة صغيرة في عشرين عاما، ولا يملون.. انتظر ردحا من الزمن، وسوف ترى أن هذه الوجوه تختفي لتحل محلها وجوهٌ جديدة، أو ربما تجري لها عمليات تجميل لتظهر على نحو مختلف». واختتم: «الحكم الذي ترعاه واشنطن في أي بلدٍ ليس أكثر من سيرك، يتبادل فيه اللاعبون عروضهم في كل موسم، هكذا هي السياسة، ألم يقل ميكيافيلي إن على الحاكم أن يغير وجوه من يحكمون باسمه، كلما تطلب العصر ذلك؟».
عند كل منعطف طريقٍ يمرّ به العراقيون، كنت أتذكّر نبوءة صديقي الأكاديمي، تذكّرتها عندما انسحب الأميركيون من البلاد، تاركين مسرح «الفوضى الخلاقة» الذي أنشأوه مفتوحا على مصراعيه. وتذكّرتها عندما برز إلى العلن الصراع على موقع رأس الحكومة، وتدخل الأميركيون لتزكية نوري المالكي الذي انعقدت له بيعة الإيرانيين أيضا، وتذكّرتها عندما تصاعدت في ساحات المواجهة صيحات المطالبة بالإصلاح والتغيير، وتذكّرتها عندما أطلقت قوى خفية «دولة الخلافة» التي وضعت العراقيين مجدّدا في قلب العاصفة، حيث أصبحت عودة «البرابرة» أمرا مقدّرا ومكتوبا، ومرحّبا به من الجميع!
واستعدتها عندما سقطت «دولة الخلافة»، وتحررت الموصل، وفي حينها سمعنا عن محاسبة من سلم، ومن استسلم، وعن خطط لتغيير الوجوه الحاكمة، أو إخضاعها لعمليات تجميل، وتذكرتها عندما انفجر حراك الشباب في ثورة تشرين حيث تجدد حديث القوم عن الاصلاح والمراجعة والقضاء على الفساد، ثم طويت صفحة تشرين كما طويت صفحات قبلها، وفي الانتخابات الأخيرة التي لم نعرف مآلاتها بعد قيل اننا سنحظى بفرصة تغيير شامل، وكأن السنوات العجاف اليابسات التي مرت لم تكن كافيةً لتدارك الحال، أو تغيير المآل، وقد حصدت منا الملايين الذين رقدوا من دون قبور، ومئات آلاف الأطفال والنساء الذين قضوا غرقا أو حرقا أو اغتيالا، وكذا الشباب والشيوخ الذين قضوا نحبهم غدرا، أو تغييبا، أو اختطافا أبديا، وملايين أخرى من نازحين ومنفيين ومهجّرين ومشردين ومهمشين.
محاربة الإرهاب
هكذا مضت المسرحية فصولا، مرة جاء «البرابرة» لتعليمنا الديمقراطية، وأخرى لمساعدتنا على محاربة الإرهاب، وثالثة لإعادة إعمار بلادنا وبنائها، ومرة عاشرة لإنقاذنا من توغل إيران وتغولها، وها قدأصبح وجودهم معنا اليوم ضرورة استراتيجية، ونوعا من الحل في نظر من كانوا يطالبون بطردهم من بلادنا.
أما الإيرانيون، فمن واقع خبرتهم في صناعة السجاد بنفسٍ طويل، فقد شرعوا في مساعيهم الشريرة لتظلّ شراكتهم في احتلال بلادنا وإخضاع أهلنا قائمةً، حتى يمنّ الله علينا بظهور «المهدي» الذي يأتي ولا يأتي، وعندئذٍ سوف يكون لكل حادثٍ حديث.