الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تأملات في زمن التحوّلات

بواسطة azzaman

تأملات في زمن التحوّلات

نوري جاسم 

 

في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات، ويعلو فيه ضجيج الأزمات فوق همس الإنسان الداخلي، يصبح السؤال الأكبر في العراق اليوم: كيف نحافظ على إنسانيتنا ونسجّل حضورنا في عالمٍ يتغير كلّ يوم؟

لقد مرّ العراق بمحطاتٍ معقدة ومتشابكة، بعضها سياسي، وأكثرها اجتماعي. ومع ذلك ظلّ العراقي—بكل أطيافه—يمتلك قدرة فريدة على النهوض، وكأنه يولد من رماد التحديات في كل مرة. هذه القدرة ليست حادثة طارئة، بل جذور ممتدة في تاريخ طويل من التجارب المريرة والانتصارات الصامتة. ولكنّ المرحلة الحالية لا تحتاج فقط إلى قدرة على الصمود، بل إلى قدرة على الفهم. فالفوضى التي يختبرها المجتمع ليست مجرد أزمات عابرة، بل انعكاس لغياب مشروع وطني جامع، يضع الإنسان في مركز الاهتمام؛ إنسان يمتلك الوعي، والتعليم، والحرية، ويشعر أن صوته مسموع وأن مكانه محفوظ. فاليوم نحن بحاجة إلى أن نستعيد شيءًا فقدناه وسط هذا الزحام: ضوءنا الداخلي. ذلك الضوء الذي يجعل الفرد يرى ما وراء الانقسامات، وما أبعد من الخلاف اليومي، ليكتشف أن قوة المجتمع لا تكمن في تنوّعه فحسب، بل في قدرته على تحويل هذا التنوع إلى طاقة بنّاءة. وإن بناء مجتمعٍ متماسك لا يبدأ بالقرارات الرسمية، بل يبدأ من داخل الإنسان نفسه: ومن طريقة تفكيره، من إيمانه بالمستقبل، ومن قدرته على الاختلاف باحترام، ومن استعداده لتقديم الخير دون انتظار مقابل. ووسط اغترابٍ روحي يعيشه كثيرون اليوم، لا بدّ من الإشارة إلى دور القيم الأخلاقية والروحية التي لطالما شكّلت صمّام أمان لهذا البلد. فالمجتمعات التي تحافظ على بعدٍ روحي متوازن—بعيد عن الغلو، قريب من جوهر الإنسانية—هي المجتمعات التي تنجح في إعادة ترتيب أولوياتها وتحديد اتجاهها. وإن العراق لا ينقصه الذكاء، ولا الموارد، ولا القدرات الشبابية الهائلة. ما ينقصه اليوم هو تناغم داخلي يعيد ترتيب العلاقة بين الفرد ومجتمعه، وبين الدولة ومواطنيها، وبين الإنسان ونفسه. فمن دون رؤية واضحة، يبقى التقدم مجرد أمنية؛ ومن دون تماسك اجتماعي، يبقى الاستقرار مجرد شعار. ونحن في لحظة مفصلية، إمّا أن نستثمرها لبناء عراق قادر على استيعاب أبناءه جميعًا، أو نتركها لتتكرر كفصل جديد من فصول الفرص الضائعة. وإن الزمن لا ينتظر أحدًا، ولكنّ المجتمعات الذكية هي التي تعدّ نفسها لالتقاط اللحظة. والعراق بتاريخه وثقافته ورصيده الإنساني قادر على أن يفعل ذلك، حين يبدأ كل فرد بإشعال ضوءه الداخلي من جديد، ليضيء الطريق لنفسه... ثم لوطنه.

 


مشاهدات 228
الكاتب نوري جاسم 
أضيف 2025/12/13 - 1:39 AM
آخر تحديث 2025/12/13 - 5:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 183 الشهر 9226 الكلي 12793131
الوقت الآن
السبت 2025/12/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير