الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
غرفة الزجاج وغرفة الطين

بواسطة azzaman

غرفة الزجاج وغرفة الطين

زكي الحلي

 

في زمنٍ أصبحت فيه الأضواء تحكم المشهد، وتحوّلت ساحات المدن إلى منصّات مفتوحة للشهرة، برزت ظاهرة (الغرفة الزجاجية) في ساحة التحرير، حيث يقف المشاهير وصنّاع المحتوى خلف جدران شفافة، يعرضون ما يقدّمونه من مساعدات أمام الكاميرات والجماهير.

إنها غرفة مبنية من الأضواء والعدسات، تحوِّل فعل الخير إلى مادة مرئية قابلة للمشاهدة والمشاركة والتفاعل. قد يكون الهدف ـ كما يقال ـ نشر الإيجابية، لكن الصورة لا تخلو من تساؤلات عميقة حول معنى الصدقة، ومكان الإخلاص فيها، وحدود الاستعراض باسم الإنسانية.

وعلى الطرف الآخر، بعيدًا عن الزجاج واللايكات، هناك من يعيش في (غرفة الطين)، غرفة لا يدخلها الضوء إلا خافتًا، ولا يزورها سوى من يبحث بصدق عن المحتاجين. أشخاص يمشون بصمت في الأزقّة، ويطرقون الأبواب بهدوء، يحملون خيرهم بين أيديهم دون أن ينتظروا ثناءً أو متابعة. أولئك الذين فهموا أن الصدقة الحقيقية تُصنع في الخفاء، وأن البرّ يُختبر حين لا يراك أحد غير الله.

كنتُ في ذلك الوقت وبتوجية من الشركة التي أعمل فيها (وأمتنع عن ذكر اسمها بناءً لرغبة أصحابها) أبحث عن امرأة من هذا النوع من البيوت المنسيّة: امرأة منفصلة، تكافح الحياة وحدها، وتعتني بثلاثة أطفال معاقين إعاقة جسدية مصحوبة بتخلّف عقلي. ثلاثة أجساد ضعيفة تحتاج إلى رعاية دائمة، وثلاثة أرواح بريئة لا تعرف من الدنيا إلا أمًّا تحاول أن تكون لهم كل شيء. كانت هذه المرأة تبحث عن مأوى، عن سقف يحمي أطفالها من قسوة الشارع، وكانت تحتاج إلى يد تمتد إليها، لا لتلتقط صورة، بل لتمدّ لها طوق نجاة.

وأنا أتنقّل بحثًا عنها، كنت أرى المفارقة بوضوح: هناك من يضع نفسه داخل غرفة زجاج، محاطًا بالتصفيق وتغطيات المشاهير، يبحث عن شهرة مغلّفة بعنوان الخير. وهنا امرأة غارقة في الطين، تبحث عن منقذ واحد فقط. بين الغرفتين تتجسّد القيم: في الأولى يُصنع المحتوى، وفي الثانية يُصنع الإنسان.

الصدقة المخفية ليست فقط أجمل عند الله، بل أعمق أثرًا، لأنها تصنع حياة وتعيد كرامة. أمّا الصدقة أمام الكاميرا، فإنها تصنع مشاهد عابرة سرعان ما تُنسى عند أول ترند جديد.

لهذا، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نريد غرفة زجاج يرى فيها الجميع ما نفعل؟ أم غرفة طين نرى فيها نحن فقط من يحتاج؟

فالخير الحقيقي لا يُقاس بعدد المشاهدات… بل بعدد الأرواح التي تنتشلها من الألم.

 

 


مشاهدات 77
الكاتب زكي الحلي
أضيف 2025/11/26 - 2:40 PM
آخر تحديث 2025/11/28 - 5:51 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 436 الشهر 20674 الكلي 12682177
الوقت الآن
الجمعة 2025/11/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير