الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
وطن الاوجاع الأليفة            

بواسطة azzaman

وطن الاوجاع الأليفة            

محمدحسين الداغستاني 

 

عندما يتغلغل الحزن عميقاً في زوايا الدار  ، يأنس الإنسان إليه طوعاً ، ويستكين إلى وقعه اليومي الآسر ، فيغدو الوقت مجرد فسحة للتوقعات المبهمة واحلام اليقظة  ، بل ويتجرد من سمته التقادمية  قبل أن يتحول إلى غول ينهش الحنايا ببطئ أليم  ، محرقاً الأضلاع ،  فاقداً الإحساس بالموجودات . إلاً  أن  المأساة آنذاك تكون قد تجاوزت  مساحة  البيت إلى خارج الذات  ، الى فضاء الوطن الواسع  ، فيضج بالوجع والانتظار الممل ، وترى شفاه الناس المتيبسة من حوله تتمتم بالصلوات والرجاء المتطلع إلى منحة ربانية  يعيد للزمن رتابته  ، وهدوءه ،  وأمانه المفتقد  !

ليس من الضروري الاستعانة بفخامة الكلمات المنتقاة  و الجمل القصيرة الفضفاضة  ، فلقد كان دستويفسكي  مسرفاً في توظيف  الكلمات البسيطة في الظاهر ،  لكنه كان يحقق في سياق السرد  بنية لغوية متماسكة في التداخل والتعقيد، ويجعل الأشياء العادية مرئية وموحية وصادمة   تمهيداً  لتثبيت تجربةٍ مذهلة  تضج بالمشاعر والحزن والأسى  ،  وهكذا  يحذو الشعر الحديث  بل والادب عموماً حذوه  أو  على مثيله، و يشكل  الشاعر  عبدالحميد صافي العاني نموذجا لهذا التوصيف  ، فقد بدا واضحاً في نصوصه المتأخرة   بأن العاطفة  والود والتغزل بالحبيبة لم تعد تشكل  محاور نصوصه المجروحة .

  لا شك  ان الحزن في حياة العاني طارئ وجديد ، وأضحى  يمور بين  نصوصه الشعرية  نتيجة  إختفاء  نجله الكبير  بعد إنتزاعه عنوة من قبل مجاميع مسلحة ربما بسبب إسمه  أو كنيته أو اللهجة التي يتكلم بها  أو لأي سبب لا يبرر  قساوة الفعل ،   فأشعلت  بذلك نارا متقدة لا تخبو في الأفئدة ولا  تلين في أروقة الدار  الموجوعة   فظل  الوالد كما كان والد يوسف  ينتظر منذ سنوات من ينقذ فلذة كبده  من غياهب الجب المجهول بل ومن يجلب له خبراً يريح النفس :

 

اشتعلت بك.

كما يشتعل حجر في بئر قديم.

لا ماء فيه ولا نجاة.

أنت الغائب

وقميصك الريح.

إرسله فيصير العمى شجرة تثمر عيوناً جديدة.

أنا الذي فقد وجهه  في المرايا

وأنا الذي ينتظر ظلك

على حافة لغة لا تُقشر  .

يوسف لم يأت.

 

      وكرد فعل طبيعي  أصبح العاني يدرك بأن المعضلة ليست شخصية ، وأن هناك اسباباً  موضوعية  تتصل بالوطن وما تعج به من أحداثٍ مؤلمة ومشكلات ذاتية  ، ثم أن الحدث لم يضحى فريداً بل تجلى في ظاهرةٍ تعصف بكيان الآف المكلومين حوله وهي دون أدنى ريب  تنتظر  بديلا ً  يمنح الناس الأمان المفتقد  :

 

لا تُناديني بوطنٍ

إن كان سقفه من خوف،

وأرضه من رماد،

وأطفاله يولدون

وفي أفواههم كمامات الصمت.

أنا لستُ ابنَ الحدود المرسومة بالدم،

ولا ابنَ النشيد المعلّب في الصباح،

أنا ابنُ الشوارع المكسورة،

والأحلام المهاجرة،

والعصافير التي ترفض

أن تغني في قفص.

لن أرفع الراية إلا إذا كانت

من قماش الحقيقة،

ولن أصفق إلا لريحٍ

تقتلع العروش

وتزرع مكانها حقولاً من العدالة.

 

      من المؤلم حقاً أن يشعر المرء بالغربة في وطنه  بعد المجريات  التي هدّت كيانه  واستقرار اسرته   واشاعت الغموض في الآت  من الزمن القاتل  فغدت الموجودات  ادوات رعب وتحسب وحذر  ،  فيتلفت حوله   بغرابة  هل هذا هو الوطن كما عرفه منذ ولادته  ؟  وصدق  أبو حيان التوحيدي  حين قال  : (أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه )  فيضطر أن ينضم الى سرب المغادرين ويحمل حقيبته باحثاً عن ملجأ  بعيد . وهذا ما إختاره العاني ، لكن البديل لن يكون  وطناً ابداً  :

 

في المطارات،

كنا نطيرُ بلا أجنحة ،

وتُفتَّشُ أرواحُنا كما تُفتَّشُ الجيوب،

ثم نُختمُ بختمٍ بارد،

كأننا طرودٌ فقدت عنوانَها.

كنتُ أرى الحقائبَ تتثاءبُ

وتحلمُ بمسافةٍ أخرى،

وأرى وجوهاً لا أعرفها

تسقطُ من عيونها خرائطُ صغيرة

لا تشيرُ إلى أحد.

الغربةُ؟

هي أن تضعَ رأسكَ على كتفِ مدينة،

فتديرُ وجهَها إلى الجهةِ الأخرى  !!

 

     في الغربة  قد يميل الشاعر الى  توثيق معاناته  ولوعته وإنتظاره المرهق   بل وربما  يحن الى تلك اللغة الوارفة التي بَصَمت  حروفه  زمنا طويلاً  ، إلا أنه يعدل عن ذلك  ويبقى يحفظ لتلك الأرض الممهورة  بعرق جبين الأجداد  الود  ويتحاشى أن يخلف ورائه ما يشير الى جحود الحاضر ونكران الأحفاد  :

 

كتبتُ لها رسالةً

بلون الدم ،

ووضعتها في خوذة جندي مجهول.

قالوا لي:

"الحبّ في زمن البنادق خيانة."

فمزّقتُ الرسالة

وأكلت الورقة…

لئلا يقرأها التاريخ.

 

    هناك في تلك الارض البعيدة  يضج نشيد الوطن  بالذكريات والحنين  والتلاقي  ، وهناك  الناس يتخطون مسرعين  يتجاهلون كمَد الغريب   واللهيب المتوهج في روحه  ، فيشعر العاني بأثقال العزلة  والتفرد  ويلم وجعه الكسير  بإنتظار القادم الذي يأتي ولا يأت  :

 

الناسُ يَمْضون كأنَّكَ رِيحٌ عابرة،

لا يَسألون عن جُرحٍ يَنزفُ فيكَ،

ولا يَلتفتون لِعمْقِ السُّكوتِ في روحِكَ.

عِشْ لِنَفْسِكَ…

فأقرب الوجوهِ إليك قد يَرحلُ بلا سبب،

وأصدق القلوبِ قد يَغدو غريبا بين ليلةٍ وأُخرى،

ولا يبقى معكَ آخر الليل

إلّا صوتُكَ… يَسندُ وجعكَ.

 

     لقد حرص العاني بادواته الشعرية التي اتسمت لغتها بالقصدية والبساطة ان يحيل نبضات قلبه الموجوع الى رؤية مبصرة تتجاوز ذاته الى مأساة مجتمع يتعايش مع جراحه وهو   لا يزال في النفق الطويل.


مشاهدات 39
الكاتب محمدحسين الداغستاني 
أضيف 2025/11/26 - 3:07 PM
آخر تحديث 2025/11/27 - 2:30 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 115 الشهر 19619 الكلي 12681122
الوقت الآن
الخميس 2025/11/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير