كله تروح فدوه لغني… مثلٌ بريء اتهموه ظلمًا
أحمد جاسم ألزبيدي
في مدينتي المحاويل، حيث تُزرع الأمثال كما تُزرع النخيل، وتُحصد الألقاب كما تُحصد التمور، يكفي أن تنطق بكلمة في غفلة، أو ترتدي بدلة في غير محلها، حتى تلتصق بك كنية تعيش معك أكثر مما تعيش زوجتك !
فهناك من يُعرف بمهنته، وآخر بكلمته، وثالث بندبته أو ببدلته، ورابع بابتسامته، أما خامسهم فقد تلتصق به قصة لا تُنسى، كما التصق بالمرحوم كاظم الشمري المثل الأشهر في المحاويل: "كله تروح فدوه لغني ".
لكن دعوني قبل أن أصل إلى الحكاية، أذكّر بميزة مدينتنا التي لا تُجارى: طيبة أهلها وسماحتهم، فالكردي يزوج ابنته للعربي، والشيعي يصاهر السني، والمسيحي جار محبوب، والجميع في الحلوة والمرة سكنٌ واحد. لا تعرف المحاويل طائفية ولا تفرقة، بل تعرف البساطة والضحكة والنخوة.
أما القصة، فقد روتها لي والدتي رحمها الله، عن أيامٍ كان فيها والدي تاجرًا ذا شأن، كثير الأسفار بين القرى وبغداد. وبسبب انشغاله كان يستعين بجارنا العزيز العم غني، الذي كان يومها شابًا طيبًا خفيف الظل، قريبًا من قلوب الجميع.
وذات موسم من مواسم عاشوراء، قرر الوالد أن يستأجر باصًا كبيرًا للذهاب إلى زيارة الإمام الحسين والعباس عليهما السلام، واجتمعت العوائل: الكبار والصغار، النساء والرجال، ومعهم العم كاظم الشمري والد غني. كانت الرحلة عامرة بالدعاء والدموع، وبالطبع بالكباب الكربلائي الذي لا يخيب.
أدّوا الزيارة وتبضّعوا الهدايا، ثم اجتمعوا للعودة، فإذا بصوت العم كاظم يعلو بالبكاء والنواح:
"يا ويلي… ضاع غني !"
اهتزّ الجمع، وهرع الرجال يبحثون، والنساء يندبن. وبعد وقت ليس بالقليل، صرخ أحدهم:
"" لكم بشرى… لقينا غني !
عاد الجميع فرحين، والعم كاظم احتضن ابنه، قبّله وبكى، ثم قال بصوت حاسم:
"يالله اركبوا… نرجع قبل لا يصير الليل ! "
لكن أحدهم اعترض:
"يمعود… بعد ما رجعوا كل الناس اللي راحوا يدورون عليه !"
فردّ كاظم، غاضبًا لكنه مطمئنًا:
"يالله يالله… كله تروح فدوه لغني !"
ومن يومها صار المثل يجري على الألسن: "كله تروح فدوه لغني"، يُضرب حين يقدّم أحدهم مصلحته على الجماعة.
رحم الله العم كاظم، كان طيبًا محبًّا، وما قصد إلا قلب الأب الذي يخاف على ابنه. وغني كبر، وصار تاجرًا ناجحًا، وأبًا فاضلًا، وأنجب أبناء صالحين، منهم الاقتصادي، ومنهم المهندس، ومنهم الضابط، وصديقي الراحل أحمد، زميلي على الرحلة المدرسية.
أما اليوم، فالمثل استُعمل في غير موضعه !
صار الأب يرفع شعار "كله تروح فدوه لغني" وهو يدافع عن فاسد أو تاجر مخدرات أو قاتل ! نراه يُطلق سراحه بعد ساعات او اشهر بحجة أنه "يافع"، أو تحت ظل قانونٍ غامض لا يراه أحد.
والمثل المسكين بريء من هذه المآسي فالمرحوم كاظم قالها بصدق الأبوة، لا لتبرير الفساد، ولا لستر الجريمة !.
يا ليت زمان المرحوم كاظم الشمري يعود، بزمن الطيبة والبساطة، حين كانت (الفدوه) من القلب، لا من الفساد ويا ليتنا نُعيد للأمثال هيبتها، فلا نظلمها كما ظلمنا الوطن !