الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مزامير الطين

بواسطة azzaman

مزامير الطين

 فراس عبد الحسين

 

استيقظ قبل أن تبدأ الشمس برسم خطوطها الأولى على صفحة السماء الشرقية، حين كان البرد الصباحي لا يزال يعانق أزقة بابل الضيقة، يتسلل إلى كل زاوية، موقظاً الأحجار الباردة وهمسات التاريخ العتيق. تنسل رائحة الخبز الساخن من فناء البيت، دافئة ومطمئنة، تتراقص مع أصوات ديكة تُعلن بداية يوم جديد، وتراتيل خافتة من المعابد البعيدة تنساب خيوط من الفجر الروحي.

نهض "نبو" من فراشه المصنوع من القش والخوص، الذي يحمل بين أليافه قصصاً لا تُحصى من ليالي بابل، شعر ببرودة الأرض تحت قدميه العاريتين، كأنه يلامس الأرض الأم التي تربى عليها، يستمد منها قوة خفية، والشعور بالأمل المتجدد الذي يُولد مع كل فجر جديد يشرق على المدينة القديمة، مدينة الأساطير والحكمة.

مسح عينيه ببطء، يتلمّس ثقل الحلم الذي يحمله معه منذ طفولته المبكرة، ذاك الحلم المكتوب على ألواح الطين في مخيلته، المنقوش بمعاني لم تُنسَ بعد، وحكايات عظيمة تُعيد تشكيل العالم من جديد في ذهنه. في ركن البيت، كانت أمه "تابيتي" مشغولة كعادتها، تخرج أرغفة الشعير من التنور الطيني الملتهب. دافئٌ كأن قلب الأرض ينبض بين يديها، يملأ البيت برائحة الخبز الطازج التي تذكره بأمان الطفولة وبدفء العائلة.

وضعت الأرغفة بعناية في سلة مصنوعة من خوص النخل السميك، تغطيها بقماش بسيط وكأنها تحفظ سرًا ثمينًا من خبز الأرض. قربها، كانت هناك طبق التمر الحلو اللامع، وجبن أبيض طري، وأكواب من نقيع الشعير، التي يشاركها الأبناء مع الكبار في وجبة الفطور الصباحية. طقس يومي يعزز الروابط الأسرية ويغرس قيم التراث في النفوس الصغيرة.

غسل وجهه ويديه بماء بارد من جرّة فخار عتيقة، يشعر ببرودتها تلامس جلده، توقظه من حلم الليل، وتحضّره ليوم جديد يملؤه التعلم والتحديات المثيرة. جلس الشاب على الأرض المفروشة بحصائر مهترئة، تناول الطعام بصمت مطبق، وعيناه تتابعان أباه "إتيرو" الجالس في الزاوية، الذي بدت جلسته شامخة وهو يراجع بدقة ألواح الطين التي سيسلمها إلى المعبد في وقت لاحق من اليوم. كان الأب يحمل بيده القصبة النحيفة، وكأنه يمسك بأداة السحر، يخطّ بها رسائل لا تقدر بثمن؛ رسائل تحكي عن الآلهة وقوتها، عن البشر وتحدياتهم، عن العدالة والسماء والأرض، كل ذلك محفور في الطين ليخلد شهادة على حياة كاملة.

شعر "نبو" بثقل المسؤولية يتسرب إلى عروقه، لم يكن مجرد طفل يتعلم الكتابة، بل كان حامل إرث عظيم، حافظ سرّ أجداده، ومُدوّن لنبض الحياة في بابل. "كم أتمنى أن أصبح كاتبًا عظيماً يوماً ما، أن تُخلّد كلماتي على ألواح الطين، تتجاوز الزمن وتظلّ حية رغم مرور السنين"

ارتدى ثوبًا من الكتان الأبيض النظيف، ناعمًا، ينساب على جسده كنسمة رقيقة، يربط على رأسه عمامة بسيطة تحميه من شمس بابل اللاهبة، ثم وضع ألواح الطين غير المنقوشة وقصبة الكتابة النحيفة في كيسه المصنوع من الصوف. قبل أن يخرج، تنفّس عميقًا كأنما يستمد قوة من الأرض والسماء معاً، قوة تدفعه نحو مصيره المجهول.

توجه الفتى نحو الأزقة الضيقة المتعرجة، خطاه خفيفة لكنها مليئة بالعزم والإصرار. مرّ بباعة الأسواق وهم يهيئون دكاكينهم المزدحمة، يحملون صرخات الحياة اليومية وأصواتها المتداخلة التي تملأ الهواء. توقف للحظة، يحدق في تمثال حجري نصف مكسور في زاوية الطريق، تمثال يبدو أنه قد عاصر الكثير. نحته دقيق ومتقن، يعكس قصصًا من زمن بعيد، وقصصًا ما زالت تنتظر أن تُروى، حكايات قديمة لم تكتمل بعد. مرت يداه على النحت بحذر كأنه يلامس روح التاريخ ذاتها.

حين وصل إلى المدرسة، توقف أمام واجهتها المصنوعة من طين مشوي صلب، حيث نقش بالخط المسماري العريق "هنا تُصنع الكلمات كما تصنع الآلهة العالم" ابتسم في سرّه، كأن كلمات هذه الواجهة تحمل وعدًا وحلمًا في آن واحد، وعد بمستقبل مشرق وحلم بالخلود.

دخل "بيت الألواح" وجلس على الأرض الطينية الباردة إلى جانب أصدقائه، يعتريه القلق والفضول يملأ صدره، فضول لا يعرف حدوداً. دخل المعلم، "أومّو كالا"، رجل صارم الوجه، صلب الملامح، لا يبتسم إلا نادرًا، ابتسامته الوحيدة قد تكون للكتابة. يحمل في يديه ألواحًا قديمة، مغطاة بأساطير قديمة تملأ المكان بروح الماضي، وكأن كل نقش يهمس بحكاية.

بدأ الدرس، كتبت أسماء الآلهة العظيمة بنقوش مسمارية مميزة: إنليل، إنانا، مردوخ.. كل نقش كان بمثابة جسر يربط هذا الصبي بعالم قديم وعميق من الأساطير والقوى الخارقة. كان يبلل قصبته بعناية ويضغطها بحذر على سطح الطين الرطب، فيتكون الخط ببطء وروية، كأنه يرسم حياة جديدة على صفحة صامتة. كل خطأ يُمحى بالماء ويعاد كتابته بتركيز شديد. لا مكان للتهاون في الكتابة؛ فهي ليست مجرد رموز عابرة، بل أفعال مقدسة تكتبها أيادي البشر في مواجهة النسيان الذي يهدد كل شيء، في صراع أزلي مع انطفاء الذاكرة وخفوت القصص. انتهى الدرس مع منتصف النهار، وأُطلق سراحهم إلى دفء شمس الظهيرة اللاهبة التي بدأت تحرق الأرض.

عاد إلى البيت، يعرق في جسده الصغير، لكن قلبه مشحون بالحيوية والطموح الذي يغمره. فتحت أمه الباب وراحت تمسح جبينه بقطعة قماش مبللة، رائحة الخبز ما زالت عالقة في الأجواء، تمنح المكان رائحة الدفء والأمان. جلسوا حول مائدة الفناء المتواضعة، تناولوا العدس المطهو مع البصل والكراث، وشرائح من لحم الماعز مع التمر، والخبز الطازج، في مشهد بسيط لكنه يحمل دفء العائلة وروابطها المقدسة. الأب أخرج لوح الطين الذي نقش عليه الابن اليوم، نظراته كانت مليئة بالفخر والاهتمام، وقال له بصوت حنون: ستصبح كاتبًا عظيمًا يوماً ما، مثل جدك الذي كان يكتب للحاكم نفسه، ويخلد اسمه. ابتسم بفرح صغير، أحس أن فخره هذا يومًا ما سيكبر ويكبر، مثلما تنمو الحكايات بين الألسن وتنتشر عبر الأجيال.

بعد الغداء، أخذ الأب ابنه إلى السوق الكبير، حيث تختلط الأصوات والروائح والألوان في فسيفساء من الحياة النابضة. كانت هناك قرقعة الأواني المعدنية، ورائحة القرفة والكمون تعانق نسائم الهواء الدافئة، وهديل الحمام ينساب بين الأزقة الضيقة، يضيف لحناً للمكان. رأى الفتى الحدادين يصهرون النحاس ويطرقونه بقوة، يصنعون الأدوات والأسلحة، والصباغين يغمسون الأقمشة في أوعية ملونة تلمع بألوان الطبيعة الزاهية، كقوس قزح على الأرض.

في زاوية من السوق، وقفت امرأة عجوز بملامح أنهكها الزمن، تبيع تمائم على شكل ثيران مجنحة منحوتة بدقة، تدعي أنها تحمي من الأرواح الشريرة وتجلب الحظ. اقترب والده من بائع آخر، واشترى لوحًا طينيًا جديدًا، وقال لابنه وهو يمرره له: "أن كل لوح كتابة هو وعد لمستقبل لم يكتب بعد. حافظ عليه ولا تكسره."

ثم صادفا في الزاوية صوتًا جهوريًا، حيث وقف رجل ذو لحية طويلة، يجذب الناس حوله كالمغناطيس، صمت السوق للحظة ليستمع الجميع إلى حكايته. بدأ يروي قصة جلجامش وأنكيدو، أبطال سومر الخالدين، كأنهم عادوا فجأة من عالم الأساطير العجيبة، عالم تلتقي فيه الإنسانية مع الآلهة، حيث الشجاعة المطلقة والحزن العميق والأمل اللانهائي يتشابكان في نسيج واحد. في عيني الرجل اللامعتين، بدت الأساطير حية، لا مجرد نقوش على ألواح قديمة، بل جزء لا يتجزأ من روح بابل ووعيها الجمعي. شعر الصبي وكأنه جزء من تلك الحكايات، وأن دماء جلجامش تجري في عروقه.

حين بدأت الشمس تميل نحو الغروب، ويصبغ شعاعها الذهبي أسوار المدينة الشاهقة، بدأ الأب وابنه يسيران نحو بوابة عشتار العظيمة. كانت البوابة مشهدًا مهيبًا يقطع الأنفاس، تقف شامخة كعملاق من العصر الذهبي لبابل. جدرانها المزدوجة، المشيدة من الآجر المزجج باللون الأزرق السماوي الذي يلمع كالياقوت تحت ضوء الشمس المائلة، تزينها صفوف متتالية من أسود الإله مردوخ وثيران الإله أداد، منقوشة ببراعة فائقة وتفاصيل دقيقة، كأنها حيوانات حية تبرز من الجدران لتشهد على قوة المدينة. كل لبنة فيها كانت تروي حكاية، وكل نقش يهمس بإرث آلاف السنين. كان نبو يتوقف دائمًا أمامها، يشعر بأنها ليست مجرد مدخل، بل عتبة بين العالمين: عالم البشر وعالم الآلهة، بين الحاضر والماضي الأسطوري. كانت الألوان الزاهية والنقوش المذهلة تملأ روحه بالرهبة والفخر، وتؤكد له أن بابل ليست مجرد مدينة، بل هي قلب العالم ومركزه.

بينما كانا يمران قرب البوابة، دوى صوت الطبول وقرون الثيران في الهواء، صوت يزلزل الأرض. ارتج شارع الموكب بأكمله تحت وقع أقدام الجنود، تقدموا بخطى صارمة ومنظمة، يرتدون دروعًا برونزية لامعة تعكس ضوء الشمس الغاربة، وسيوفًا منقوشة تزينها الرموز القديمة. رايات مردوخ الضخمة رفرفت في الهواء بقوة، وكهنة الحرب تقدموا وهم يرددون تراتيل دينية بلغات قديمة، أطلقت الأبواق أصواتًا تقشعر لها الأبدان، كأنها إنذار للآلهة أن بابل لا تزال سيدة الأرض، قوية لا تُقهر.

وقف الناس في صمت مقدس على جانبي الطريق، البعض جثا على ركبتيه خشوعاً، وآخرون نثروا الزهور المجففة على الطريق. ارتفعت زغاريد النساء الحارة من أسطح المنازل، بينما مرت عربات الحرب الخشبية، تجرها ثيران قوية، تحمل قادة بملامح قاسية، أعينهم مليئة بالعزم والتصميم على النصر. شعر نبو بقلبه ينبض بعنف، وكانت يداه ترتعشان وهو يتمتم بهدوء، متمنياً أن يصبح يوماً ما جندياً من حبر، يدون هذا المجد العظيم للأجيال القادمة. مرّ الموكب، وخف وقع الأقدام، وهدأ صخب الأبواق. تبادلا الأب والابن نظرة صامتة، مليئة بالمشاعر غير المنطوقة، ثم واصلوا طريقهم نحو المعبد، وقد رسخت في ذهن الفتى عظمة مدينته. كان يتخيل نفسه يوماً ما يكتب عن هذا اليوم، عن قوة بابل التي لا تتزعزع.

عبروا بوابة الإله الضخمة المزينة بالبلاط الملون، ومروا بالحدائق المعلقة الأسطورية، حيث كانت الزهور تتراقص على أنغام النسيم العليل، والنخيل يهمس بقصص الزمن القديم، والسواقي تهمي بمياه باردة صافية تروي عطش المكان. صعدا السلالم الشاهقة نحو ساحة مرتفعة، حيث تمثال الإله مردوخ يقف شامخًا وسط البخور الكثيف والنذور الكثيرة. انحنى الأب وابنه في صمت وتوقير، ورشّوا حفنة من حبوب الشعير على الأرض، فيما كانت أصوات الكهنة ترتفع بتراتيل بلغات قديمة لم يعد يفهمها الجميع، يطرقون صنوجًا برونزية تحذر بحضور الآلهة وقوتها. بعد الصلاة، قرأ الأب نقشًا حجريًا على الجدار القديم، مبيناً لولده معناها "أن من يكتب، يرضي الآلهة ويحفظ المدن من الهلاك"

عادوا إلى البيت مع حلول العتمة، في الطريق شاهد الفتى وهج سُرج الزيت يتسلل من نوافذ البيوت في الأزقة المظلمة، يخلق ومضات من الدفء. مرّ ظل قطة أمام بيت مغلق، وسمع همسات نساء تتبادل الحكايات والأسرار خلف الستائر الخشنة. في الفناء، كانت الأم قد أعدّت عشاءً بسيطًا: حساء الشعير الدافئ، مع شرائح من البصل المخلل، وكوب ماء بارد من جرة الطين، يروي العطش.

جلسوا يأكلون بصمت، والدفء يغمرهم، والسماء تتلبد بالنجوم المتلألئة التي لا عدّ لها. بعد العشاء، جلس الابن بجانب جده، الذي رغم كونه كفيفًا، كان يحمل في ذاكرته كنوز القصص القديمة التي يرويها كأنه يقرأ من قلبه، من روح متصلة بالماضي. حكى الجد عن الطوفان العظيم، وعن "أوتنابيشتيم" الرجل الذي أنقذ العالم من غضب الآلهة بالماء، قصة تزرع الخوف والأمل في آن واحد. حين انتهى، قال للجميع أن يحفظوا هذه القصص، ففي لحظة موت المدن، حين تنهار الجدران وتتلاشى الأسماء، تظل الكلمات حيّة، هي الشاهد الأخير، وهي الحياة التي لا تموت. الكلمات هي الجسور التي تصل بين الأجيال، النور الذي يبدد ظلام النسيان. كان الجد يتحدث وكأن كل كلمة تخرج من عمق التاريخ، من روح بابل نفسها.

صعد الفتى نبو إلى سطح البيت، استلقى على حصيرة قديمة، وتلفّت إلى السماء الواسعة التي تلمع بالكواكب المضيئة، كأنها ماس منثور في سواد الليل. كان يعرف أسماء الكواكب التي يراقبها الكهنة بدقة، ويحسبون بها زمنهم ومستقبلهم. تذكّر لوحه الطيني الجديد الذي اشتراه والده، وشعر برغبة ملحة أن ينقش عليه غدًا اسمه، واسم أباه وأمه، وجده، وكل القصص التي سمعها.

رفع بصره نحو السماء، حيث النجوم اللامعة كانت عيون الآلهة تراقب خطاه بحنان وحذر، تبارك طريقه. تمتم لنفسه بصوت منخفض، كأنما يهمس للكون كله، بأنه سيكتب، حتى تعرفه الأرض والسماء، وسيكتب ليبقى خالدًا. اسمه وقصته جزء لا يتجزأ من تاريخ بابل العظيم، ليتجاوز الزمن، ويظل صوته حياً لأجيال قادمة، صدى يتردد في أزقة المدينة الطينية، وشاهداً على أن الكلمات أقوى من أي محو.

 


مشاهدات 53
الكاتب  فراس عبد الحسين
أضيف 2025/11/11 - 6:14 AM
آخر تحديث 2025/11/11 - 8:15 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 288 الشهر 7578 الكلي 12569081
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/11/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير