انتصار المقاطعة والصمت
انتصار الحسين
في العراق، لم يكن الصمت حياداً، ولا كانت المقاطعة هروباً، بل موقفاً واعياً عبّر عن عمق الألم واستمرار الأمل.وحين خلت مراكز الاقتراع من الناس، بدا المشهد كأن المدن كلها تتحدث بصوت واحد: كفى.هنا لم يكن الصمت انكساراً، بل بياناً وطنياً بلا شعارات، وإعلاناً عن وعيٍ سئم الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها.سنواتٌ من الخيبات رسمت هذه اللحظة، لحظة المواطن الذي نام على وعود التنمية وصحو على واقع الفقر، فأدرك أن صوته يُستدعى فقط ساعة التصويت، ليُعاد بعدها إلى الظل من جديد.طال خداعه بخطاباتٍ تبتسم أمام الكاميرات وتغيب خلف الأبواب المغلقة، فاختار أن يقول كلمته اليوم بطريقة أبلغ من أي هتاف.في الجنوب والوسط، حيث تغلي الأرض بتاريخٍ من الصبر والإصرار، برزت المقاطعة هذه المرة كفعلٍ احتجاجيٍّ إنسانيٍّ وسياسيٍّ معاً.
فالمواطن لم يعد يبحث عن بريق الشعارات، بل عن خبزٍ وكرامةٍ وحياةٍ تليق بالإنسان.وما بدا عزوفاً في نظر البعض لم يكن إلا يقظةً جماعية قررت ألا تمنح الشرعية لواقعٍ لم يعد يُطاق.الامتناع عن التصويت لم يكن فراراً من المسؤولية، بل رفضاً لاستغلالٍ متكررٍ لمعاناة الناس. كانت رسالةً واضحةً تقول: لا ثقة بوعودٍ تولد في الحملات الانتخابية وتموت بعد صناديق الاقتراع. المقاطعة هنا ليست نهاية الطريق، بل بدايته. فهي لحظة وعيٍ تضع الخط الفاصل بين زمن الاستغلال وزمن الإرادة.وهكذا انتصر الصمت.انتصر حين نطق بلغة كرامةٍ لا تساوم، ووعيٍ لا يُشترى، وأملٍ لا ينطفئ.كان انتصاراً للكرامة على الخداع، وللحقيقة على الخطابة، وللشعب على الخذلان.وفي قلب كل مدينة عراقية، ظل السؤال يتردد: من يعيد للوطن وجهه الذي غيّبته الأزمات؟ليست المقاطعة انسحاباً من حب العراق، بل تأكيداً عليه.فهي وعدٌ جديد بأن هذا الشعب، رغم الجراح، ما زال قادراً على النهوض، متى ما قرر أبناؤه أن يقولوا كلمتهم بالفعل لا بالصوت.