الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السراب

بواسطة azzaman

السراب

محمد زكي ابراهيم

 

لقد أتى على العراقيين حين من الدهر كانوا غارقين فيه بمآسي الحرب، وتبعات الحصار، يغالبون مصاعب العيش، ويقاسون مرارة الحرمان. وليس ثمة ما يحلمون به سوى استعادة حياتهم الماضية، بكل ما فيها من منغصات، لم يكونوا عابئين بما يجري في دول العالم الأخرى من تطورات علمية أو تقنية، فما لديهم من هم أكبر من أن يحتمل، وما وقعوا فيه من أذى أعظم من أن يطاق.

لقد كانت المعاناة ثقيلة جداً، وكان التفكير في ما يحدث في المختبرات العلمية، أو ما يدور في المؤتمرات الدولية، أو ينتج في المصانع الكبرى، أو يدرس في الجامعات المتقدمة، ترفاً فكرياً لم يكونوا قادرين على مجاراته.

وقد تبين في ما بعد، حينما أسدل الستار على تلك الحقبة، أن العالم مر بثورات علمية هائلة، لم يسبق أن عرفها من قبل، وأنتج تقنيات متطورة، تفوق كل ما أنتجته البشرية عبر تاريخها الطويل. كان البحث عن عالم جديد، يستطيع الإنسان أن يعيش فيه برفاهية هو هم العلماء الأول، وكان الاتجاه نحو التحديث هو هدفهم الأسمى.. لم يثنهم عن التفكير نوازع الشر التي يحملها البعض، أو نوايا العدوان التي يضمرها الغير، فقد تركوا لأهل الحل والعقد حسن الاختيار، وانصرفوا هم لشأنهم العلمي الخاص. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكن الحقيقة أن هذا هو ما فعله علماء كبار، كانوا يعملون بصمت ودأب وعزيمة، طوال تلك السنين، وأول الغيث كان الحاسب الآلي الذي ظهر في أواخر أربعينات القرن الماضي، بشكله البدائي وحجمه الهائل.

كان جهازاً ضخماً يحتل بناية كاملة، ويشتغل عليه عشرات الموظفين، ويؤدي وظائف محدودة، لكن الأبحاث لم تتوقف من أجل اختزال حجمه، والتقليل من كلفته، وتطوير إمكاناته، حتى تضاءل بمرور الوقت وبات في حجم حقيبة يدوية، وأخذت قدراته تتضاعف بشكل مذهل، وتتزايد بطريقة غير مسبوقة، ولم تكن شبكة المعلومات التي غذي بها قد عرفت قبل ذلك، لكنها نمت وترعرعت في ذات الوقت الذي كان العراقيون منشغلين فيه بالبحث عن رغيف الخبز الأسمر. وقد فوجئ هؤلاء حينما وضعت الحرب أوزارها، أن الحاسب الآلي بات في حجم قبضة اليد، وأن الهاتف النقال، أصبح حقيقة واقعة، وبدأت قنوات البث الفضائي بالعمل، وحل نظام البرمجة في المكائن والآلات والاتصالات محل العشوائية والعمل اليدوي. أما الإنجازات الطبية والأحيائية مثل استنساخ النعاج، فقد كانت من المفاجآت التي صدم بها العراقيون في نهاية القرن، إذ كان ذلك مقدمة لاستنساخ كائنات بشرية، بكل ما فيه من تبعات اجتماعية وقانونية.

ولحسن الحظ فإن شيئاً من هذا لم يظهر حتى الآن.

لماذا شغل العراقيون أنفسهم في البحث عن أمجاد زائفة، فقدوا فيها أعز ما يملكون، وغفلوا عما يدور حولهم من متغيرات؟ هل كانوا يجهلون معنى القوة الحقيقية التي يحوزها بلد من البلدان، ويحرز بواسطتها قصب السبق؟ إنني أشك أن أحداً من ذوي النفوذ في ذلك الحين كان يعي خطر العلم، ويعرف ما يمثله من ثورة، ويدرك أن كل ماعداه  محض سراب، فلم يكن بوسع أشخاص خرجوا للتو من عتمة الجهل، ومن منابت الإثم، ليتقلدوا زمام المسؤولية، أن يعرفوا معنى القوة الحقيقية. إن تقدم الشعوب لا يتحقق بما تملكه من غلات، أو ما تحتكم عليه من ثروات ، بل بما تحرزه من نتاج ذهني وعقلي. وليست القوة بما تكنزه من سلاح وعتاد، وما تشتريه من مدافع وطائرات، بل بما يبذله أبناؤها من جهد وتفكير، ورغبة في البناء والعمران، وطموح إلى المجد والعز، وما سوى ذلك محض سراب!.

 

 


مشاهدات 46
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/11/01 - 1:48 AM
آخر تحديث 2025/11/01 - 7:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 181 الشهر 181 الكلي 12361684
الوقت الآن
السبت 2025/11/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير