الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الكاتب المجري لازولو الحائز على جائزة نوبل 2025. . الحياة دائمة التصحيح


الكاتب المجري لازولو الحائز على جائزة نوبل 2025. . الحياة دائمة التصحيح

عصام البرّام

 

نال الكاتب المجري  لازولو  كراسناهور كآي،  جائزة نوبل في الآداب لعام 2025 عن مجموعته الأدبية، ولعل أهم ما حظي بالتقدير هو قدرته على أن يصوغ في عالمنا المعاصر نصوصاً ترفض أن تختزل الوجود في الترفيه أو النكتة أو الراحة، وإنما تراهن على الفن كقوة مناوئة للتلاشي وللإنهيار. اللجنة السويدية أشارت إلى أنّه؛ كاتب ملحمي عظيم في التقليد المركزيالأوروبي يستمد جذوره من كافكا وتوماس برنهارد، كما ويتسم بالعبثية والإفراط القاس . في هذا المقال نسلط الضوء على مسار حياته ومحطات فوزه بالجائزة ثم نتوقف عند أهم روايته ، أو بالأحرى أهم محطات روايته ورؤيته الأدبية التي دفعت إليه هذا التكريم

ولد لازولو عام 1954 في مدينة غيولا الواقعة جنوب شرق المجر قرب الحدود الرومانية.  نشأ في بنية إجتماعية بسيطة في بلدٍ لا يزال تحت نفوذ النظام الشيوعي، وكان ذلك الطقس السياسي والاجتماعي عاملاً حاضراً لاحقاً في كتاباته التي تجترّ شعور التمزّق والهامش. وفي شبابه درس القانون في جامعات المجر (في مدينتي مثل سِغِد وبودابست) ثم ترك المجال القانوني ليتفرّغ للكتابة الأدبية.  في أواخر الثمانينات حصل على منحة للعيش في برلين الغربية كفنان حيث بدأت رحلاته وأبحاثه تتوسّع نحو الشرق الأقصى (الصين واليابان) وهو ما ترك أثره في رؤيته الأدبية وفي تحوّله من الواقع المحلي إلى الأفق العالمي. 

وبمرور سنوات الفقر التأريخي والانهيارات السياسية، بدأت كتابته تعكس ذلك الشعور بأنّ العالم يسير نحو مأزق أو نهاية أو كارثة، ليس بوصفه حدثاً مفاجئاً فقط، بل بوصفه حالة كائنة ، بل حالة للعالم وللبشرية، وهو وصفٌ له طابع (آبوكاليبسي) بمعنى أن المؤلف لا يؤمن بأن النهاية مجرد مسار طبيعي بل أنها تُمضي نحونا كحالة واعية من الإنسحاب وفقدان الإتجاه. النقّاد أشاروا إليه بصفته (سيد نهاية العالم الأدبي) كما وصفتها الناقدة سوزان سونتاج بعد أن قرأت روايته الثانية. ومع مرورالوقت، وبعد أن صدرت رواياته وبدأت تُترجم وتُحقّق شهرة في أوروبا، جاءت الجائزة الكبرى في 2025 لمنحه الإعتراف الدولي الأوسع، لأنها كرّست ليس فقط موهبة فردية بل أيضاً قدرة الأدب على مواجهة الزمن الراهن، وأكدت أن النص الأدبي لا يزال يُقرأ ويؤثر ويُشكّل. في كلمة لاحقة قال لازولو: (إنّ الحياة دائمة التصحيح)، وهو تصريحٌ يعكس رؤيته اللا نهائية للكتابة وللوضع البشري. 

عالم لازولو الأدبي

أما الآن، فلندخل إلى قلب عمله الأدبي لنفهم ما الذي ترصّده روايته وما الذي جعلها مؤهلة لتحطيم الحواجز التقليدية ومنحه مثل هذا التكريم الأدبي العالمي. من بين أعماله، كثيراً ما يُشار إلى  (1989)  رواية (كآبة المقاومة) أو (حزن المقتومة) باعتبارها نقطة محورية في مساره.

 ففي هذه الرواية يدور السرد في بلدة صغيرة في المجر، يصل إليها سيرك غامض يعرض جثة حوت عملاق، وهذا العرض ليس مؤثّراً فقط لأنه غريب أو مثير بل لأنه يُشبه بوابة إلى تحوّل داخلي واجتماعي. فجأة تنقلب الأمور، ويبدأ مسلسل من الرعب والقلق والاضطراب الاجتماعي، ويسود جو من نهاية العالم الموعودة ، ليس كمشهد سينمائي فحسب، بل كاحتمال ثابت يدخل في الوجود اليومي.

الرواية بذلك ترصد لُحظة الانتقال من نظام إلى إنهيار، لكنها تفعل ذلك عبر رمزية مكثّفة: فالحوت كموت أو كائن هائل يمثل النظام أو الفشل أو الأفق الذي تجاوزناه، أما المدينة التي كانت في انتظار المعجزة أو الخلاص، تجد نفسها محاصَرة بتوقعاتٍ وانكساراتٍ، والمجتمع ككل يستعدّ لنهاية، وينتظر التغيير، لكنه عند اللحظة الفعلية لا يكون مستعدّاً، وبدلاً من ذلك تُبعث فيه رغبةٌ في الخلاص أو العمران أو السلطة الجديدة التي ربما هي أكثر سوءاً. فهنا يُظهر  الكاتب إمكانية الحرية للبشر الصغار، رغم إنهيار النظام الاجتماعي المتواصل. 

أما على مستوى الأسلوب، ما يُميز الرواية هو أن الكاتب يصيغ جملة سردية طويلة متدفّقة بلا توقف تقريباً، فالفقرات ممتدّة، علامات الترقيم غير كثيرة، لا تقسيمات نصية مريحة للقارئ العادي. هذه الخاصية ليست مجرّد اختيار شكلي، بل هي تجسيد لتلك الحالة النفسية التي يصفها: الحوادث تتراكب، والزمن يتآكل، والأفق لا يقف، والقارورة تتطاير خارج السيطرة. مترجمها وصفها؛ بأنها (تدفق بطيء للنص).

من خلال هذه الرواية، ومن خلال مجموع أعماله، نرصد عدداً من المحاور التي تُعطي عمقاً للتكريم الذي ناله. أولها: هشاشة النظام الاجتماعي ، المجتمع يبدو كأنه مبنٍ على أوهام، ينتظر مَن يُبوّقه أو يُعدّله، يخيّل له أن الفوضى تأتي من الخارج، لكنه غالباً ما يتسبّب بها من الداخل.  ثانيها: العبث والتكرار والدوام على ما هو عليه ، لا نخوض في النهاية بمجرد إنقطاع الخط أو حدوث الكارثة، بل بأن الناس يستمرون في انتظار شيء ما، في تكرار، وفي الجمود، وفي حوار مع الزمن الضائع. ثالثها: الإيمان بالفن والكتابة كقوى مضادة ، اللجنة قالت؛ إن تكريمه جاء لأنه (يعيد التأكيد على قوة الفن) حتى في خضم الرعب الأبوكاليبسي.

إنّ الرواية بذلك ليست مجرد سرد لأحداث في بلدة مغلقة، بل هي تجريب لنصّ يحاول أن يخلّف في القارئ إحساساً بأن ما نقلبه (حياة يومية) ما هو إلا ظلٌّ لما هو أعمق، وهو ضعف في التوقعات، وكسر في الحكاية الرسمية التي تقول إننا نتحسّن، أو أن النهاية موعودة لنا. بدلاً من ذلك، (النهاية) تصبح حالة مستمرة.

المشهد الأخير

ويكتمل المشهد إذا تذكّرنا أن  الكاتب لازولو، لا يكتب في فراغ محلي فقط، بل في سياق أوروبا الوسطى ما بعد الشيوعية، في مواجهة مجتمع كان يتخيّل أنّه بنى مستقبله ثم آكتشف أنّه ليس مستعدّاً لذلك. كما أن رحلاته إلى الشرق (الصين، اليابان) أثّرت على رؤيته من حيث أن العالم يبدو أكبر بكثير من الحدود الوطنية، والكتابة تتخطى الحكايات المحلية وتدخل في رموز عالمية.ولعل من محطات الرواية أيضاً أن كثيراً من أعماله تم تحويلها إلى أفلام وتجارب بصرية مع المخرج المجري (بيليه تار) مثل فيلم ( ستانتانغو) الذي استغرق سبع ساعات، ما يعكس أن النص لديه أبعاداً تتجاوز القراءة إلى السينما والفن البصري، وهو ما يعزّز فكرة أن الأدب الذي حصد نوبل هنا ليس محصوراً في الحرف بل في التجربة الكلية للفن.

إنّ الجائزة في الأدب غالباً تُمنح لمجموع أعمال الكاتب وليس لعنوان واحد فقط تحديداً، وقد أشارت اللجنة إلى مجموعته البصيرة والرؤيوية وليس إلى رواية بعينها.  لكن مع ذلك يمكن القول إن الروايات مثل (كآبة المقاومة أو حزن المقاومة، وهي رواية تُجسّد إنهيار النظام الاجتماعي وعبثية المقاومة في وجه الانهيار)  أو رواية (  عودة البارون وينكهايم إلى الوطن أو (عودة البارون وينكهايم إختصارًا للأسم)، وهي رواية تتناول عودة رجل نبيل مسنّ إلى بلدته المجرية، ليواجه ماضيه ومجتمعه المتحوّل، أو رواية (رقصة الشيطان) أو (تانغو الشيطان ) وجاءت الترجمة الحرفية هي (تانغو الشيطان)، وهي تعني رقصة شيطانية أو لعبة ثنائية مع الشر، وقد تُترجم كذلك بـ تانغو الشيطان لو أُبقي على الشكل الأصلي. التي تشكّل معاً بنية عمله وأسباب تقبله. وعليه يمكن القول؛ إن الرواية التي كانت محورية فيه هي تلك التي تحمل تلك الخصائص: البناء السردي الطويل، اللغة التي تبدو متدفقة وكأنها تدور في مدارات، الرؤيا التي تبحث في ما بعد النظام الاجتماعي، وفي هشاشة الإيمان بالتغيّر، وفي قدرة الفن على البقاء رغم الرعب. لذا، يمكن القول إن فوزه بجائزة نوبل ليس نهاية الطريق، بل محطة ضمن طريق أدبي طويل بدأ من مدينة صغيرة في جنوب المجر، وارتدّ عبر محطات قانون، ومنح سفر، إلى كتابة تتموضع في قلب الأزمة الإنسانية من أزمة المعنى الى أزمة الأمن الى أزمة الفن. وعبر عمله يذكّرنا بأنه حتى في زمن تبدّد المعاني وإنتشار الفوضى، فالأدب قادر أن يقول لنفسه: لا زلنا هنا، النص لا يزال يُكتب، والرؤية لا تزال تقوى. ربما هذا هو ما جعله يستحق التكريم.

 

 


مشاهدات 79
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/11/01 - 12:49 AM
آخر تحديث 2025/11/01 - 9:01 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 247 الشهر 247 الكلي 12361750
الوقت الآن
السبت 2025/11/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير