الذكرى الثانية والتسعين لانتخاب الفقيه الدستوري ناجي السويدي
صفحات مضيئة من سيرة أول نقيب للمحامين العراقيين
أحمد مجيد الحسن
ولد المغفور له إبراهيم ناجي السويدي في أسرة عراقية عربية أصيلة، وإبراهيم ناجي هو اسمه الأول، فقد اعتادت بعض العوائل في بغداد وفي المدن الأخرى على تسمية أبنائها اسماءً مركبة تقليداً للصيغة العثمانية في التسمية وإذا اكتفت باسم واحد فالمدرسة تجعل له اسماً مركباً إذا التحق بها كما جاء في مذكرات سليمان فيضي. وبعد الاحتلال البريطاني أكتفي باسم واحد مع اللقب. وكان لهذه العائلة دورٌ مؤثر في الحركة العلمية والوطنية في تاريخ العراق فوالده يوسف السويدي كان من رجال ثورة العشرين.
نشأ فقيدنُا الراحل في هذه الأسرة وظهرت عليه بوادرُ الفطنةِِ والذكاء منذ صباه وهذا ما جعله يتخطى مراحلَ التعليم بتفوق، فبعد تخرجهِِ في مدرسة الاعدادي الملكي العثماني في بغداد أكمل دراستَه في مدرسة الحقوق في إسطنبول، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في القانون سنة 1905، وبذا يعد أولَ عراقي يحصل على هذه الشهادة العليا، تقلد على أثرها مناصب مهمة في الدولة العثمانية أثبت فيها جدارته في جميع الوظائف التي تقلدها.
اهتم السويدي بالنشاط السياسي مبكراً فانتمى الى الجمعيات السياسية كجمعية الاخاء العربي العثماني التي تطالب بالحرية والإصلاح لذا رحب مع العرب الاخرين بإعلان الدستور العثماني سنة 1908 كما عارض سياسة جمعية الاتحاد والترقي التي تنصلت عن الاهداف التي رفعتها وركزت جهودها على محاربة العرب.
وبعد الحرب العالمية الأولى أسهم ناجي السويدي في بناء اسسِ الدولةِ العربية في الشام مع الملك فيصل الأول، ومنها انطلق للمطالبة في استقلال العراق وتكوين حكومتهِ الوطنية، وهذا ما دعاه للمجيء الى العراق من اجل تحقيق ذلك الا انه اصطدم بالسياسة الاستعمارية البريطانية، وبذلك تبلور لديه موقفٌ معارض للسياسة البريطانية في العراق استمر حتى وفاته كما سيمر بنا.
وبعد رجوعه الى العراق شارك بكل همة في بناءِ مؤسسات المملكة العراقية، وكان يرفِدُ الحكومة بالآراءِ والمقترحات التي من شأنها ان تخدمَ الدولة العراقية فتقلد مناصبَ وزارية مهمة (كوزارة العدلية مرتين والداخلية والمالية) فضلاً عن رئاسة الوزراء واسهم في تأسيس بعض الاحزاب السياسية التي كان يرى فيها عنصرا مساعدا يخدم المملكـة العراقية، ومن هذه الاحزاب (حزب الامة) و(حزب الاخاء الوطني).
إلا أن الصفحة الأكثرَ إضاءةً في سيرته:
هي مصاحبتُه للدستور في مختلف مراحلِه ووقوفُه على ما غَمَض منه وكذلك ايمانُه المطلق بالحياة الدستورية، فقد شارك في أهم عمل قانوني في تاريخ العراق ألا هو وضعُ القانون الأساسي سنة 1925 الذي يُعد أولَُ دستورٍٍ في العراق فساهم في جميع اللجان التي وضعت لائحته مساهمةً فعالة وكذلك في لجان تعديله وكان دورُه في ذلك دورَ الوطني المدركَ لحاجات العراق في وضع دستورٍ يضمن ممارسةَ الشعب لحقوقه وعدم التسلط عليه، مثال ذلك أن تكون الحكومةُ مسؤولةً أمام البرلمان لا أمامَ الملك كما ورد في مُسَودة الدستور.
وظل السويدي يدعو الى احترام الدستور والتمسك بأحكامه لأن عدم التمسك به يؤدى الى فقدان التوازن في القوى الدستورية والى الاضطراب في الحياة السياسية، فنزلت نصوصُ الدستور في نفسه منزلةً خاصة وأصبح بذلك المرجعَ الرئيس لإيضاح ما يصعُب فَهمُه من بنودِه، وكان يقدم الاستشارةََ القانونية لكل الجهات التي تطلبها فكان ذهنُه المتوقد حاضراً دائماً لإعطاء الحلولِ التي لا تتيسرُ لغيرِه من رجال الدولة، وهذا ما جعل ساسةَ العراق يومذاك يطلقون عليه لقب (فقيهَ الدستور). وفي هذا المآل يقول أحد كبار المؤرخين المعاصرين له «إن ناجي السويدي أكبرُ دماغ قانوني في العراق»
كل هذه المزايا والصفات جعلت زملاءَنا المحامين طيب الله ثراهم ينتخبونه سنة 1933 أولَ نقيب للمحامين بدون منازع بالرغم من عدم حضوره الانتخابات.
ولقد حدث ذلك بعد صدور (قانون نقابة المحامين) رقم (61) لسنة 1933 الذي نص في (المادة/2) منه: تؤسس بحكم هذا القانون نقابةٌ للمحامين يكون مركزُها العاصمة وعندئذ يكون جميعُ المحامين في العراق منتسبين الى النقابة»
لذلك أصدر وزير العدلية اعلاناً بتاريخ 27/9/1933 دعا فيه المحامين الذين تتوفر فيهم شروطُ ممارسةِ المحاماة وكان عددُهم (109) محامين فقط للحضور الى ساحة المحاكم لانتخاب رئيس لنقابة المحامين، كما كان يسمى آنذاك فحضروا في عصر يوم (التاسع من تشرين الأول سنة 1933) أي قبل 92 سنة تماماً واجتمعوا بحضور وزير العدلية (محمد زكي البصري) أمام غرفة المحامين في ساحة بناية المحاكم في شارع المتنبي (المركز الثقافي البغدادي حالياً)، وابتدؤا بانتخاب الرئيس ففاز برئاسة النقابة ناجي السويدي بـ (65) صوتاً بالرغم من عدم وجوده كما ذكرنا سابقاً.
وأنقل لكم نص ما نشرته جريدةُ الطريق البغدادية الصادرة يوم 16/10/1933 العدد 164 تحت عنوان (ناجي باشا السويدي في غرفة المحامين):
قُبيل ظهرِ أمس قصد فخامةُ (ناجي باشا السويدي) غرفةَ المحامين في بناية المحاكم فاستُقبِل من قبل المحامين استقبالاً لائقاً بفخامته ثم جلس على كرسيٍ في صدر الغرفة وألقى كلمةً موجزة شكر فيها اخوانه المحامين على انتخابهم إياه نقيباً لهم وحَرّضهم على الحرصِ على مهنتهم الشريفةِ المقدسة، وعلى لزومِ انتخاب هيئةٍ إدارية من إخوانهم الذين يعتمدون عليهم ويولونهم ثقتهم ولما أتم فخامتُه كلمتَه عجت الغرفةُ بالتصفيق الحاد ثم شُيع بما استُقِبل.
والصفحة الأخيرة التي لا تقل إضاءةً في حياة الفقيد الراحل:
هي موقفُه الوطني الثابت فقد كانت له مواقفُ وطنية مشهودة تتمثلُ في معارضته الشديدة للمعاهدات التي كانت تريد بريطانيا فرضها على العراق وتبيانِ مساوئِها والقيودِ التي تريد أن تكبلَ العراقَ بها وغيرها من المواقف الأخرى.
الذي كان آخرُها مشاركتَه في حركة مايس التحررية سنة 1941 وزيراً للمالية نُفي بعد فشلها الى روديسيا في جنوب أفريقيا (زمبابوي) حالياً، وبعد أقل من سنة صعدت روحُه الطاهرة الى بارئها فمات منفياً شهيداً في 17/آب/1942.
ولم تنسَ بريطانيا حتى بعد وفاته موقفََه الثابتَ الى جانب وطنه ومعاداتَه لها فرفضت إعادة جثمانهِ الطاهر الى وطنه ليدفن فيه الا في سنة 1949أي بعد 7 سنوات من وفاته