كركوك قلب كردستان
ليث شبر
كركوك ليست مدينة عادية، بل ذاكرةٌ تمشي على الأرض. كل حجر فيها يحمل تاريخًا، وكل شارعٍ يختزن حكايةً عن نزاعٍ وهويّةٍ وثروةٍ وسياسة. من يقف على أسوار قلعتها العتيقة، يرى طبقاتٍ من العصور تتكدّس كما تتكدّس الأطماع على جسدها، ومن يحدّق في عيون أبنائها يدرك أنّها لم تعش يومًا حياةً طبيعيّة، بل كانت دومًا ساحةَ صراعٍ بين من يريدها رمزًا، ومن يريدها غنيمة.
حين أقول كركوك قلب كوردستان، فإنني لا أتبنّى شعارًا، بل أصف واقعًا جغرافيًا وتاريخيًا وسياسيًا لا يمكن إنكاره. فهي قلبٌ ينبض في خاصرة العراق، تلتقي عنده لغاتٌ وثقافاتٌ ودماءٌ وأحلام. هذا القلبُ حاولت الأنظمة السابقة خنقه بسياسات التغيير الديموغرافي والعربنة والتهجير، فزرعت داخله ألغامًا لا تزال تتفجر حتى اليوم. لكنّ ما لم تفهمه تلك الأنظمة هو أنّ الهوية لا تُمحى بقراراتٍ ولا تُستبدل بسجلات نفوس، لأنها تسكن الوعي الجمعي وتتنفس في الأرض التي تشهد لمن سكنها منذ آلاف السنين.
كركوك مدينة النفط والنار والذاكرة. فمنذ أن تفجّر فيها بابا كركر في عشرينيات القرن الماضي، تغيّر قدرها إلى الأبد. لم تعد مدينة عادية، بل تحوّلت إلى مطمعٍ لمن أراد السلطة أو الثروة أو النفوذ. فيها تقاطعت مصالح العواصم الكبرى، وتصارعت الإرادات الإقليمية، وتاهت حقوق أهلها بين الخرائط والمناصب. كل قوةٍ أرادت أن تجرّها إلى جهة، وكل حزبٍ أراد أن يجعلها ورقة تفاوض، حتى صارت المدينة التي يُتداول اسمها في المكاتب المغلقة أكثر مما تُسمع فيها أصوات الناس.
سياسية الدولة
لكن رغم كلّ هذا، تبقى كركوك عراقيةً وكردستانيةً وإنسانيةً في آنٍ واحد. عراقية لأنها جزء من الجغرافيا السياسية للدولة، وكردستانية لأنها تنتمي وجدانيًا وثقافيًا وتاريخيًا إلى نسيج الأمة الكردية التي صبرت كثيرًا وظُلمت طويلاً. وإنسانية لأنها تمثل نموذجًا حيًا للتنوع الذي يجب أن يُصان لا أن يُستغل. إنَّ كركوك يمكن أن تكون جسرًا بين العرب والكرد والتركمان، لا خندقًا بينهم. لكنها تحتاج إلى رؤية دولة، لا إلى مزاج سلطة.
من وجهة نظري، لا تُحلّ قضية كركوك بالمساومات ولا بالقرارات المتسرعة، بل بالحكمة والعدالة والاعتراف المتبادل بالحقوق. الحلّ يبدأ حين نعترف جميعًا بأنّ الظلم التاريخي الذي تعرّض له الكرد في هذه المدينة لا يمكن تجاوزه بالصمت، وبأنّ العرب والتركمان الذين عاشوا فيها منذ عقودٍ لهم أيضًا مكانٌ مشروعٌ فيها. ليست المشكلة في من يملك الأرض، بل في من يملك الضمير. فإذا اجتمع الضمير والسيادة والاحترام المتبادل، يمكن لكركوك أن تكون نموذجًا للتعايش لا للتنازع.
كركوك اليوم على مفترق طريقين: إمّا أن تبقى رهينة الصراعات الحزبية والمناورات السياسية، فتنزف ببطءٍ في صمتٍ طويل، وإمّا أن تتحول إلى مدينة المواطنة المشتركة، إلى عاصمةٍ رمزيةٍ للعدالة العراقية الجديدة. وأنا أؤمن أن مستقبل العراق لن يُكتب إلا حين نجد حلاً شريفًا وعادلاً لكركوك، لأنها المِرآة التي تعكس صدق الدولة مع نفسها.
كركوك ليست قضيةً تخصّ الكرد وحدهم، بل اختبارٌ لضمير العراق كله. إن كان هذا الوطن يريد أن يثبت أنه خرج من زمن التسلّط إلى زمن الشراكة، فعليه أن يضع كركوك في القلب، لا في المساومة. فكما أنّها قلب كوردستان، فهي أيضًا نبض العدالة العراقية المنتظرة. ومن لا يسمع نبضها، لن يفهم كيف يُبنى وطن.