حسن النواب
في زيارتي الأخيرة إلى البلاد؛ لاحظت أنَّ هناك غِلَّا واضحاً في أفئدة مثقفي وأدباء الحكومة من جريدة بعينها دون سواها، برغم أنَّ هذه الجريدة تنفد كل صباح من المكتبات قبل صحف أخرى؛ بل حتى قبل صحيفة باذخة ممولة من خزينة الدولة، وليس عجباً ألاَّ تجد لهذه الجريدة نسخة واحدة في المكتبات، لو تأخرت عن شرائها بين زحام الصحف التي يغطيها الغبار والموجودة على الأرصفة ورفوف الأكشاك، تلك الأكشاك التي تشبه بشكلها إلى حد كبير تلك المعتقلات الانفرادية التي كانت في زمن نظام قمعي غابر ومازالت قائمة حتى الآن. وقد لاحظت أنَّ هذه الجريدة يحرص على مطالعة صفحاتها فئات متنوعة من المجتمع؛ منهم الطالب الجامعي والكاسب وحتى التاجر، بل يطالع صفحاتها بالخفاء؛ أولئك الذي يضمرون لها الكراهية بلا سبب؛ وأخصُّ منهم سكنة المنطقة الخضراء والمنتفعين من خزينة الحكومة. لا أخفيكم لقد شعرت بالمرارة والأسف، فهذه الجريدة حوربت بضراوة من قبل النظام القمعي السابق الذي استخدم شتى الطرق لإيقاف صدورها في المدن العربية؛ لأنها فضحت جرائم بطل الحفرة القومي بحق الشعب العراقي، وحين سقط الوثن في ساحة الفردوس؛ كانت هي أول صحيفة يقرأها الناس؛ وبرغم الانفتاح الديمقراطي وحرية الصحافة والإعلام؛ لكني أيقنتُ أنَّ هذه الجريدة محاربة من قبل الحكومة برغم تمويلها الذاتي. في الماضي كانوا يقولون أنَّ هذه الجريدة معارضة لنظام الطاغية؛ ولذا كان من المستحيل وجودها بين الصحف الرسمية الثلاث آن ذاك، وكان الذي يكتب على صفحاتها يتعرَّض إلى الإعدام؛ إذا ما وقع في قبضة السلطة القمعية كما يلحق بعائلته ما لا يحمد عقباه حين ذاك، والمضحك المبكي أنَّ هؤلاء الكارهين لهذه الجريدة يقولون عنها إنَّها معارضة للعراق الجديد. حسناً إذا كان النظام السابق دمويَّاً وقمعيَّاً ومنع دخولها إلى البلاد، فلماذا أنتم تخشون من هذه الجريدة الآن؛ ونحن نعيش زمن الحريات كما تروّجون لذلك؛ أضف إلى أنَّ هذه الجريدة تحفل بكتَّاب أعمدة لهم الحضور الصحفي المؤثر بين الناس؛ كما أنَّها تتمتع بصفحة ثقافية رصينة يتوق معظم المثقفين الأحرار لنشر نصوصهم فيها؛ ولستُ أغالي حين أقول إنَّها الأهم بين جميع الصفحات الثقافية في البلاد؛ ولذا نجد الكثير من الأدباء والصحفيين المبدعين يحرصون على نشر نتاجهم على صفحتها من دون مقابل وكاتب هذه السطور أحدهم؛ لإيمانهم بخطابها الصريح الذي انتهجته في مسارها من يوم ولدت وحتى الآن، فهي جريدة رسالتها واضحة؛ إذْ كانت في طليعة الصحف المعارضة للنظام البعثي الفاشي؛ مثلما تقف الآن مع مظلومية الشعب العراقي. ولذا ليس عجباً أنْ تكون مأكولة مذمومة من قبل أولئك الذين ينعمون بخيرات الحكومة والرواتب المغرية. وأعود قليلا إلى الوراء، يوم كان يجيء أحد الأدباء مع الوفود إلى مهرجان المربد مندوباً ثقافياً عن هذه الجريدة وبالسر طبعا؛ وكيف كان الأدباء الساخطين على النظام الدموي، يجتمعونَ حوله ويبدون رغبتهم بنشر نصوصهم على صفحاتها؛ لولا خشيتهم من القصاص الذي ينتظرهم من الطاغية حين ذاك؛ فكانوا يعرضون عن النشر خشية من ضياع حياتهم. لقد رأيت بعض هؤلاء الآن يتذمرون من هذه الجريدة؛ وسبحان مغير الدينار والدولار والأشعار والمقال من حال إلى حال؛ وهم يتذكرون جيداً أنَّ هذه الجريدة نشرت قصائد خطيرة ومقابلات مع شعراء مهمشين كانت أشبه بالصفعة للنظام القمعي في ذلك الوقت، بل أنَّ هذه الجريدة حرصتْ على عدم نشر أي نتاج لأديب في الداخل خشية عليه من سياط الأمن في ذلك الزمن المخيف والذي يبدو مازال مُخيفاً أمام الذي يقول الحقيقة. ولذا من الطبيعي أنْ تكون هذه الجريدة الناصعة والتي قارعت النظام البعثي بضراوة مهمَّشة وغير مرغوبة في المنطقة الخضراء. فهي صحيفة صارت مأكولة في السر ومذمومة في العلن من قبل مثقفي وأدباء الحكومة؛ وربما لسانهم الحكومي يقول عن كاتب هذا المقال إنَّهُ قبض المقسوم مقابل كتابته هذه السطور التي تتغنَّى بالجريدة؛ فأقول لكم ربما كلامي الصريح أزعجكم، وسيزعجكم أكثر في قادم الأيام؛ وأحمد الله أني أعيش برغيد العيش من عرق جبيني بوحشة المهجر منذُ خمسة وعشرين عاماً؛ لكنَّ معظم الناس الذين صادفتهم في البلاد، يتحدَّثون بكلام مرير عن نهب ثروات الوطن حتى أصبح الشعب ينام على الحصير.