الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ذنون بريادي..  رائد علم البوليمرات الذي غادر الوطن وبقي العراق فيه

بواسطة azzaman

ذنون بريادي..  رائد علم البوليمرات الذي غادر الوطن وبقي العراق فيه

أحمد جاسم ألزبيدي

 

 

في زمنٍ بات فيه العلم جريمة، والفكر تهمة، كان لا بدّ للعقول النيّرة أن تدفع الثمن. من بين أولئك العلماء الذين كتبوا أسماءهم في سفر المعرفة، ثم كتبوا رحيلهم في صمت موجع، يبرز اسم الدكتور ذنون بريادي، الأب المؤسس لعلم البوليمرات في العراق، والرجل الذي علّمني أن الصداقة قد تأتي على هيئة عالم جليل، وأن المحبة لا تُقاس بعدد اللقاءات، بل بعمق التأثير.

ولد في مدينة كركوك، مدينة التعدد والملح والتراب، في بيتٍ طافح بالإيمان والعلم؛ فوالده كان إمامًا للمسجد، وربما من هناك، من محراب الكلمات والآيات، استقى ذنون هدوءه ووقاره، لكنه اختار طريقًا آخر للرسالة: طريق العلم.

معركة مع الزمن

ولأن المبدعين لا يختارون السهل، فقد خاض الدكتور ذنون معركته مع الزمن والمجهول، فكان أول من أدخل علم البوليمرات إلى العراق، هذا العلم الحديث الذي يُعد من أعمدة الصناعة المعاصرة، وكرّس سنوات عمره لتدريسه وتأصيله، مؤلفًا كتبًا كانت الأولى من نوعها في هذا التخصص على المستوى المحلي.

لكن البلاد التي أنجبت العلماء، ضاقت بهم لاحقًا. بعد الاحتلال وما تلاه من استهداف ممنهج لأهل الفكر، وُضعت أمام منزله رصاصة داخل ظرف، مرفقة بكلمة واحدة: «ارحل». لم تكن رسالة تهديد، بل حكمًا بالإبعاد عن الوطن. وكان الرحيل، وكان الألم.

في منفاه القسري، لم يركن الدكتور ذنون إلى الحنين أو الانكسار، بل واصل مسيرته كعالم وإنسان. ورغم بلوغه التسعين من العمر، أطال الله في عمره، لا يزال يواظب على النشر العلمي عبر المنصات والصحف الأميركية، يكتب بعين العالم وحنين العراقي، وكأن القلم وطن بديل.

تزوج من أستاذة فاضلة من الموصل، مدينة العراقة، وكونا أسرة نذرت ذاتها للعلم والخلق. له ابن طبيب، وثلاث بنات من أصحاب الخُلق والمعرفة، فكانت أسرته امتدادًا لإيمانه بأن العلم يبدأ من البيت.

كلما تذكرت لقائي الأول به، أجدني أمام جبل لا يهتف، لكنه ثابت. رجلٌ لا يحتاج إلى ضجيج ليُسمَع، ولا إلى أوسمة ليُعترف بفضله. هو من أولئك الذين زرعوا في الأرض بذور العلم، ثم غادروا تحت ظلال الليل، تاركين ثمارهم تنمو في صمت.

خلف النجار

إنه الدكتور ذنون بريادي... لا يزال يُعلّمنا، من خلف البحار، أن الإنسان قد يُنفى من بلاده، لكن العلم لا يُنفى... وأن العراق، وإن جرح أبناءه، لا يزال يعيش في قلوبهم ما داموا أحياء .

هناك رجال لا يُقاسون بعناوينهم الأكاديمية، بل بأثرهم، بوقوفهم في اللحظات الصعبة، بحبهم الصامت للوطن حتى وهو يخذلهم. من هؤلاء، العالم الجليل البروفيسور ذنون بريادي، رائد علم البوليمرات في العراق، وصديقي الذي كان لي شرف معرفته، ثم صداقته، ثم تكريمه بما أملك حين كنت رئيسًا للجالية.

في الولايات المتحدة، تحديدًا في ولاية ماساتشوستس، أصبح هذا الرجل أحد أعمدة الجالية العراقية، لا فقط بعلمه، بل بروحه الإنسانية. ساهم في لمّ شمل الجالية، دعمهم ماديًا ومعنويًا، فتح بيته ووقته وقلبه، وظل على عهده مع العراق، دون مِنّة أو انتظار.

حين أسستُ برنامجي التلفزيوني «صوت المهجر»، وهو أول برنامج ناطق بالعربية في الولاية، اخترته ليكون ضيف الحلقة الأولى. لم يكن ذلك مجرد وفاء، بل تكريمًا لإنسان يستحق أن يُحتفى به وهو بيننا.

بل إنني، يوم كنت رئيسًا للجالية، أسميت قاعة نشاطاتنا باسمه تكريمًا له، فواجهت اعتراضًا غريبًا من أحدهم، قال بسطحية: «لماذا نسميها باسم كردي؟»... وكان ذلك من علامات جهل البعض وتعصبهم الأعمى. لكن الدكتور ذنون، وهو كردي القومية، عربي القلب والروح، عراقي حتى النخاع، كان أكبر من هذه التصنيفات الضيقة. فالعلم لا يُسأل عن قوميته، والوفاء لا يحتاج إلى بطاقة هوية.

ما يُؤلمني حقًا أن هذا الرجل، الذي بلغ اليوم أكثر من تسعين عامًا، أطال الله عمره، لا يزال يكتب وينشر ويواصل رسالته العلمية عبر الصحافة الأمريكية، بينما لم تلتفت إليه مؤسسات الدولة العراقية، لا تكريمًا ولا حتى اعترافًا بما قدّم.

قد لا نستطيع تغيير الماضي، لكننا نستطيع أن نكتب عنه بما يليق. واليوم، وأنا أكتب عن ذنون بريادي، لا أكتب فقط عن عالم، بل عن وطن صغير اسمه الوفاء... عن العراق الذي طُعن بأبنائه، فحملوه معهم إلى المنافي، وعادوا إليه على صفحات الكتب ...

 

 


مشاهدات 86
الكاتب أحمد جاسم ألزبيدي
أضيف 2025/10/11 - 1:37 AM
آخر تحديث 2025/10/11 - 12:21 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 354 الشهر 7157 الكلي 12147012
الوقت الآن
السبت 2025/10/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير