الصعلوك القديس الفاجر.. حسن مردان
لمناسبة ذكرى وفاته
قاسم حسين صالح
تتعدد مفاهيم الصعلكة في ثقافتنا العراقية ،فقد توصلنا عبر استطلاع اجريناه أن كبار الشعراء والنقّاد العراقيين لا يحملون تصوراً موحداً عن الشعراء الصعاليك.وأنهم اختلفوا أيضاً بخصوص الشعراء الصعاليك في العراق الحديث ،فمنهم من قال بأنه”لا يوجد أحد بعد الحصيري وجان دمو وكزار حنتوش وعقيل علي،لأنهم هم وحدهم كانوا يشكلون مشهداً شعرياً”،ومنهم من أضاف لهم حسين مردان،واختلف معهم الفريد سمعان إذ وصف حسين مردان بأنه لم يكن صعلوكاً بل فقيراً أبيّ النفس يحب الحياة،والحصيري كان بائساً قتل نفسه بيده.
وكنت اعمل في صحفيا في مجلة الأذاعة والتلفزيون ،فطلب مني ان اجري حوارا مع ( عفيفة اسكندر) . ولأنني تعلمت ان الصحفي الناجح هو الذي يفاجأ من يقابله ،ولأنني اعرف ان حسين مردان يحب عفيفة ، فانني طلبت منه ان يزودني بقصيدة حبه لعفيفة ، التي ما كانت تبادله الحب..وللأسف فانني فقدتها في مكتبتي التي احترقت.
وقد كتب عنه الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:( كان حزيناً بشكل فاجع.. ساهماً ..أفلتت منه هذه العبارة وكأنّه يحدّث نفسه ، وهو يجلس إلى جانبي في سيارتي الخاصة بعد نهاية الدوام الرسمي . يومها طلب مني أن أوصله إلى بيت الأستاذ قاسم حسن ، وكان أبو عليّ على علاقة طيبة بابنته الدكتورة شهرزاد ، كما حدّثني .
في ذلك اليوم علم حسين أن داء النقرس الذي يعاني منه منذ أمد بعيد ، قد فعل فعله في قلبه ..ثم ما لبث أبو عليّ أن ضحك قائلاً :” تخيَّلْ .. داء الملوك يصيبني أنا ! ..الداء الذي تسببه كثرة اللحوم ، يصيب حسين مردان الذي أنفق حياته وهو لا يجد ما يأكل ! .” ثم التفت إلي سائلاً باستنكار مذعور : “هذا مجنون ؟؟ ” . قلتُ مُباغَتاً: مَن ؟ .. فقال :” لَكْ دروح .. لو يصيرون خمسين عزرائيل مو عزرائيل واحد .. ما أسلّمهم نفسي ! .” بعد أيام قلائل ، سلَّم أبو علي آخر أنفاسه في المستشفى إثْرَ نوبة قلبية..وكان ذلك !... في صباح يوم 14أيلول/سبتمبر 1972، أصيب حسين مردان بأزمة قلبية حادة، توفي على إثرها بعد أقل من شهر يوم 4 تشرين الأول/أكتوبر، وهو لم يُفارق حلمه بالخلود، مردداً قصيدته الشهيرة: "فمثلي لن يموت على أرصفة بغداد/أريد أن أتيه في ليل أفريقيا /فأرى الأفعى/وهي تهصر أضلاع الأسد/أريد أن ألمس قاع المحيط/ثم أقف على قمة افرست/وأصرخ من أعماق رئتي/أنا إنسان! .
وسيكولوجيا
نميل في تحليلنا إلى فرز الشعراء الصعاليك بصنفين:صعاليك “البداوة” وصعاليك “الحضارة”،والمشترك السيكولوجي الذي يجمعهم هو الشعور بالمظلومية والاضطهاد ،والاختلاف بينهم في أسلوب التعبير عن هذا الشعور. فشعراء صعاليك البداوة شكّلوا جماعات تستهدف الأثرياء واعتمدوا الغزو لأنه كان أسلوب العيش السائد في زمانهم،وما كانوا بمجموعهم شعراء،فالشاعر عروة ابن الورد الملقَّب بعروة الصعاليك كان يجمع الفقراء ويغزو بهم،وترأسهم لا لكونه شاعراً بل لأنه فارس وكريم،مارس الغزو لا على الأسلوب الشائع بزمنه،الجاهلية، حيث قبيلة تغزو قبيلة بل استهدف الأغنياء فقط.
ومع أن الشعور بالظلم واللاعدالة الاجتماعية كانا الدافعين الرئيسين لتمردهم،لكن أن يوصف هذا التمرد بأنه ثورة ضد الفقر وسخرية من واقع لا يحترم كرامة الإنسان،يمكن أن يكون إسقاطاً من قبل الشعراء والنقاد العراقيين المعاصرين على حركتهم،أي أنهم نسبوا إليهم انفعالات ما كانوا هم يشعرون بها..وهذا هو الاختلاف بين شعراء صعاليك البداوة وشعراء صعاليك الحضارة.
فما يميز الصنف الثاني”صعاليك الحضارة” أنهم يشعرون بحيف الاستحقاق ،وأن شعورهم كان ذاتياً وأنهم يختلفون عن صعاليك البداوة في وسيلة التعبير.فصعلوك البداوة كان يغزو ويحتمي بالصحراء”متشرداً” فيما صعلوك الحضارة لا يمتلك فرصة الإفلات من السلطة، فكان يسّرب أو ينفّس عن تمرده أو احتجاجه بالسخرية من الواقع في شعر يُصاغ بمفارقات نقدية “كريكتورية” كالتي تمتع بها الشاعر حسين مردان،أو الهروب من الواقع والارتداد إلى الذات والانتحار التدريجي بالإدمان على الكحول كما حصل لعبد الأمير الحصيري،أو مغادرة الوطن والموت كمداً في بلاد الغربة كما حصل لجان دمو.
إن مثقفينا بمن فيهم كبار الأدباء والشعراء يغفلون،للأسف، دورعلم السيكولوجست المتخصص بهذا الشأن،برغم أن الشعر انفعالات وأحاسيس وخيالات..هي من اختصاصه،وأنه ما من أحد أبرع من السيكولوجيين في تحليل الشخصية وفهم الإبداع،وتلك دعوة كنّا وجهناها لاتحاد الأدباء بفتح قناة على علم يفهمهم بأنفسهم وينضج تجربتهم ويحتوون سيكولوجياً من يعاني الاغتراب قبل أن يصاب باكتئاب حاد أو يقدم على الانتحار..لاسيما أن شعراء الصعاليك لن ينتهوا ما دام هنالك فقر لكثرة مقابل قلّة تنعم بالرفاهية،وما دامت هنالك سلطة سياسية لا تمنح الموهبة الشعرية استحقاقها،حتى لو كانت ديمقراطية..وفي موطن الشعر والشعراء!