البياتي في موسوعة حبوش
اياد السعيد
قبل سنوات وفي جمع من المهتمين بالفن والإعلام ونحن نستمع إلى وصلات طربية للفنان صباح فخري وقد تفاعل الجميع معها سأل الفنان عازف العود المرحوم سامي نسيم عمّن يقابل صباح فخري من العراقيين ؟ فأجبته مباشرة قبل الجميع : سعدي البياتي وبدون منافس . صافحني سامي وبحماس وقال : (نعم نعم للأسف لم يعُد له ذكر)!
قد نعذر هذا الجيل لأنه عاصر الإنفتاح الهائل الذي يختلف عما إعتدنا عليه من ذائقة عميقة وإحساس مفرط بسبب محدودية الفضاء وعزلتنا الثقافية عن محيطنا العربي والعالم نتيجة الحروب والحصار وهي عوامل جعلتنا نتشبث بالنتاج المحلي وسببت أيضا عدم إنتشار هذا الفنان وأغانيه الجميلة التي قدمها بأداء ساحر وجذاب فقد أطربنا بكل الأطوار والأنغام من شمال العراق الى جنوبه ومن سهوله إلى اهواره ومن جباله إلى صحرائه فكان بحق أيقونة العراق وضالة من يريد الإستمتاع بصوت نظيف بلا شائبة ولا تنشيز لذا كنت أظنه تربى في بغداد لان نتاجه الكلي كان بكل اللهجات وهذه من ميزات البغدادي الذي ينهل من كل ثقافات العراق ويكون أمة وسطا! لكن الفنان وليد حبوش وفي إحدى حلقاته فاجأنا بان نشأة البياتي كانت في مدينة العمارة منذ طفولته وهي التي خرجت صفا طويلا من كبار مطربي الريف الخالدين . كنا نسمع البياتي في البيت والعمل والسيارة والمطعم وجبهة القتال والحافلات التي تقلنا إلى الحرب ، فكان يجسد بصوته الحزن والفرح معا واليأس والأمل والوجع والإسترخاء والشدة والفرج .. ربما كان قالبه الغنائي يلائم ذائقتنا في تلك المرحلة لا سيما في عقدي الثمانينيات والتسعينيات وبعد عقدين جديدين كادت ذاكرتنا ان تنسى هذا الصوت نتيجة إهتمام الإعلام بالسياسة فقط لكن برز حبوش وهو يعود بذاكرتنا إلى المرحلة المتميزة تلك وقدم تفصيلا مختصرا لحياته ونماذج من الاغاني التراثية التي جدد البياتي روحها وحماها من الإندثار وحدثها بشكل مقبول وممتع ومشوق رغم أن فريقه الموسيقي كان محدود العدد لكنهم أبدعوا وبرعوا في مسايرة حنجرته وأدائه الرائع فأبهرونا وأمتعونا .
رغم سفرات البياتي وحفلاته المطلوبة عربيا وخاصة في الخليج وسوريا والشام عموما لكنه للأسف لم ينل ما ناله أقرانه من تسليط الأضواء والشهرة والسبب كما شخصه حبوش بذكاء هو ( فقط لأنه كفيف ) في حين ان تلك الصفة كانت من ضمن عناصر الإبهار والتميز لو إستثمرها الإعلام المهني . لذلك كان يسمعه الجميع المرأة التي تبكي على شجن صوته والرجل الذي يريد تناسي واقعه وعامل البناء ، في الشارع والنادي الليلي والسوق ، فلا خدش للذائقة العامة ولا إسفاف .
لكل هذا ، ألا يستحق أن نذكره ونتذكره في مهرجان يحمل إسمه ؟ ألا نستطيع أن نعيد طربياته لتطعيم هذه الاجيال بمضادات ذائقية تحارب فايروسات السطحية الحديثة التي جمدت الإحساس وجعلت منهم ماكينات وقعها سريع بلا إحساس ونشوة روحية وإنتعاش . أظن ذلك ليس تجنيا على هذا الجيل بل هو تذكير للإعلام بأن ينظر خلفه كما ينظر أمامه.