قصر المؤتمرات .. عندما يتكلم الحجر
منتصر صباح الحسناوي
أُزيحت عني الحواجز الخرسانية الثقيلة التي كبّلتني زمناً طويلاً، كأغلال وُضعت حول عنقي، ما كان يؤلمني هو العُزلة، أن لا يراني أحد.
لم أكن عادياً، كنتُ أُبنى طابوقةً فوق أخرى في مطلع الثمانينات، تحت عيونٍ تترقّب ميلاداً مختلفاً، كانوا يقولون: إنّه سيكون مسرحَ مؤتمرِ دول عدم الانحياز، حدثٌ يُدخل العراق إلى قلب العالم.
وعندما اندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية، توقّف الحلم عند بوابتي، وبقيتُ أنا وحدي المكسب الذي خرج من رحم تلك السنوات.
جاؤوا بي من خبرة بعيدة، صُمِّمتُ على يد شركات فنلندية عرفت كيف تُنطق الخرسانة بالجمال وتحفةً سبقت زمني: قاعات مهابة، تجهيزات تليق بالمؤتمرات الكبرى والورش والاجتماعات.
كلُّ زاويةٍ في داخلي صُممت لتخدم غاية واحدة: أن أكون بيت مهابة الدولة وصنع القرار، ومنبر الكلمة.
كنتُ أشبه بجوهرة وسط الشرق الأوسط، تُزين بغداد، ولم تكن فنلندا أقلَّ فخراً بي من العراق، حتى أنّها بعد خمس سنوات من افتتاحي أصدرت طابعاً يحمل صورتي، ليتذكروا أهم أعمالهم المعمارية العالمية.
داخل جدراني تعاقبت الحكايات. مرّت بي مؤتمرات دولية كبرى، وجلست على مقاعدي شخصيات رئاسية من مختلف دول العالم، وتنفّست أروقَتي فعاليات ثقافية خلّدت لحظات من بهجة العراق.
كنتُ أُدار من دائرة خاصة حملت اسمي “دائرة قصر المؤتمرات”، دائرةٌ وُلدت مع ولادتي، وارتبطت بوزارة الثقافة لتكون عينها العليا عليّ.
لكن أعظم ما شهدته لم يكن حفلات الافتتاح ولا صخب المؤتمرات والفعاليات، إنما تلك اللحظات التي غيّرت وجه البلاد. عام 2003، فتحت أبوابي على عهد جديد للعراق؛ اجتمعت في داخلي القوى السياسية، ومن هنا تأسس مجلس الحكم، وتلاه مجلس النواب.في قاعتي وُلدت الحكومات وسُنّ الدستور وتوالت الانتخابات، وشُرعت القوانين وصرتُ ـ شئت أم أبيت ـ بيت القرار في عراق ما بعد التغيير.ولم أسلمْ، كما هو العراق، من نيران المعتدين من الخارج، إذ كان القصف الأميركي يطالني، ولا من الداخل، حين اخترقتني انفجارات التطرف والتخريب. كنتُ أنزف حجارةً وزجاجاً، لكنني أقف من جديد، أُرمَّم وأواصل الحكاية.
أنا قصر المؤتمرات، ذاكرة من حجر، كل من مرّ بي ترك أثراً: بعضهم بصوتٍ هادر، بعضهم بقرارٍ جريء، وبعضهم بخطى ثقيلة تجرّ خلفها هموم وطن.واليوم، عندما يمرّ الناس من جواري، يرونني شامخاً كما وُلدت.
قد لا يسمعون همساتي، لكنني أظلّ أروي حكاية العراق المعاصر: كيف تبدأ المشاريع بأحلام، وتنتهي بوقائع، وكيف يُمكن لمبنى أن يصير شاهداً على أمة وهي تُصارع حاضرها وتصوغ مستقبلها.