البناء العمودي ..بمعزل عن التخطيط
حاكم الشمري
شهد العراق خلال السنوات الأخيرة توسعًا لافتًا في قطاع البناء، خصوصًا في العاصمة بغداد، حيث ارتفعت الأبراج السكنية والتجارية بسرعة غير مسبوقة. هذا التوجه نحو البناء العمودي عُدَّ في البداية خطوة استثمارية إيجابية تعكس رغبة في مواكبة أنماط العمران الحديثة وتلبية الطلب المتزايد على السكن، لكن سرعان ما تحوّل إلى أزمة خدمية خانقة ألقت بظلالها على حياة المواطنين.فالمشاريع التي كان من المفترض أن تشكّل رافعة للتنمية الحضرية، بُنيت بمعزل عن التخطيط المتكامل للخدمات الأساسية. أحياء بأكملها أضيفت إليها مجمعات شاهقة دون أن تُحسب طاقتها الاستيعابية لشبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، ما أدى إلى اختناقات كبيرة في هذه القطاعات. النتيجة كانت واضحة: انقطاع متكرر للكهرباء، ضعف في تجهيز الماء، وضغط متزايد على البنى التحتية التي تعاني أصلًا من التقادم والإهمال.
هذا الواقع كشف عن غياب التنسيق بين الاستثمار العمراني والبلديات والوزارات الخدمية، إذ يُفترض عند منح أي رخصة لمجمع سكني أو برج تجاري أن تُلزم الشركات المنفذة بإنشاء خدماتها الخاصة، أو المساهمة في توسيع الشبكات العامة، بما يضمن عدم الإضرار ببقية الأحياء السكنية. لكن ما حدث كان العكس تمامًا؛ حيث جرى التركيز على المردود المالي السريع، دون الالتفات إلى انعكاساته على جودة الحياة في المدينة.الأمر لا يقتصر على الكهرباء والماء فحسب، بل يمتد إلى مشاكل في الطرق والازدحامات المرورية ونقص مواقف السيارات، فضلًا عن الضغط على المدارس والمراكز الصحية. ومع استمرار هذا النمط من البناء غير المخطط، باتت بغداد تواجه تحديًا حقيقيًا في استدامة خدماتها الأساسية.إن معالجة هذا الملف تتطلب إعادة النظر في سياسات الاستثمار العمراني، وربطها بشكل مباشر بالقدرة الاستيعابية للخدمات، مع وضع ضوابط صارمة تفرض على المستثمرين إنشاء البنى التحتية المرافقة لمشاريعهم. فالعمران لا يُقاس بعدد الأبراج التي ترتفع في السماء، بل بمدى انسجامه مع حاجات المجتمع وضمانه لرفاه المواطن.