طبع الذهب
حين تحترق القصيدة بنار الحب.. علي الشباني ومرآة الخيبة
محمد علي محيي الدين
في قلب تجربة الشاعر العراقي الراحل علي الشباني، تختبئ حكاية حب جارحة كانت أشبه بريح سوداء أطاحت بأركانه النفسية والجسدية في سنواته الأخيرة، لتتحوّل إلى شرارة ألهمته واحدة من أجمل قصائد الشعر الشعبي الحديث: "طبع الذهب". يروي الكاتب سلام إبراهيم بعضًا من تلك الفصول المؤلمة، مشيرًا إلى أن عليًا ظلَّ طوال تلك السنوات يتأرجح بين الجنون والعشق والخذلان، إثر علاقة مع امرأة أرملة – رمزها "نون" – اجتاحت حياته في منتصف التسعينيات، ثم هجرته وهو على عتبة الستين، في خيبة عاطفية لا تُحتمل.
لم تكن تلك المرأة مجرد طيف عابر في حياة الشاعر، بل كانت عاصفة قلبية غيّرت مجرى روحه، وفتحته على أوجاع لم يشف منها حتى النهاية. ورغم ما خلفته من ألم، كانت هذه العلاقة سببًا في كتابة قصيدته الشهيرة "طبع الذهب"، التي تبدو اليوم وثيقة شعريّة عن الحب حين يتحوّل إلى رماد، والروح حين تتفتّت على أعتاب الأمل الكاذب.
قصيدة من نار ومطر وذهب
في قصيدة "طبع الذهب"، لا يبوح الشباني بحكاية الحب مباشرة، بل يصوغها بلغة مشبعة بالرمز والإيحاء الحسي، حيث يبدأ باستعارة الذهب والمطر ليرسم طباع المحبوبة:
من أول ليل
طبعك ينطبع بالذهب
وأفرك بالأيام
تندلّك بطاري المطر
... وشفت المطر بعيونك الوسعة... مطر
وأيامنا الگمرة... ذهب
منذ البداية، يربط الشاعر بين صفاء الذهب ورقة المطر، لكنه لا يلبث أن يضع هذا الصفاء تحت مطرقة الزمن، حيث يتهشم الحب، ويذوب الإشراق في لوعة الخيبة. يظهر العاشق في القصيدة منكسرًا، مفرط الحساسية، متشظيًا بين الرجاء واليأس:
بس خلّك حرز للروح
يومية تلوّع بيك روحي، وتحزن وتفرح
وتشوفك فرح مضموم... وليمته حبيبي الضم؟
وتتصاعد في القصيدة درجات الألم والحنين، حتى تبلغ الذروة في النهاية، حيث يتحوّل الحب إلى لهبٍ يصعد من الأصابع، وينصهر في الجسد كجمر مشتعل:
كلّما تمطر الأيام... بالهم... والحزن... والتعب
يلهب بين أصابيعي شعر
ويصعد بطولي لهب
وهذا طبعك... يالذهب
القصيدة الشعبية في ثوب وجودي
تحتلّ "طبع الذهب" موقعًا خاصًا في مسيرة القصيدة الشعبية الحديثة، كونها خرجت من عباءة البوح العاطفي البسيط، ودخلت في مساحة التأمل الشعوري العميق. لم تكن القصيدة مجرد وصف لحالة حب، بل صراع داخلي بين ذاكرة تنهش الروح، وحاضرٍ تتكسر فيه الأحلام. ولهذا أصبحت نموذجًا يُحتذى في كيفية تطويع اللغة الشعبية لبناء مشهد شعري شديد الكثافة والصدق.
في زمنٍ كانت القصيدة الشعبية تميل إلى الغنائية التقليدية أو التوظيف السياسي، جاءت "طبع الذهب" قصيدة شخصيّة حميمية، تتكلم بلسان العاشق لا المناضل، وبقلب الشاعر لا شعار الجماعة. لقد صنعت القصيدة أسلوبًا خاصًا، فيه اللغة الشعبية مطعّمة برموز وجودية، وفيه الحب مصاغٌ بلغة الجرح، لا الزينة.
علي الشباني... شاعر الإحساس العاري
ينتمي علي الشباني إلى جيلٍ من الشعراء الذين لم يتخذوا من اللغة قناعًا، بل جعلوها مرآةً تعكس وجعهم بكل وضوح. كان شاعرًا مفرط الحس، يقيم في تخوم العاطفة لا في يقين الأيديولوجيا، ويكتب بروحه لا بقلمه.
وقد ترك أثرًا لا يُقاس بعدد دواوينه، بل بعمق ما زرعه من عاطفة إنسانية صادقة في وجدان المتلقين. لم يجامل الحياة، بل كشف هشاشته أمامها، وأحبّ حتى الانكسار، فكانت قصائده مرآة لهذا العشق الحارق، ولعل "طبع الذهب" أصدق شاهد على ذلك.
الذهب الذي لا يصدأ
"طبع الذهب" ليست فقط قصيدة حب، بل تجربة إنسانية كاملة، كتبت من قلب رجل انكسر، لكنه لم يفقد صوته. بقيت القصيدة مثل ختمٍ من ذهب على تجربة حبٍّ أودت بالشاعر، لكنها أنقذت الشعر. وهكذا يكون الذهب، في النهاية... هو ما لا يصدأ، حتى حين يُغمر بالدمع والتعب.