حين تهمس بغداد للغروب
مروان صباح الدانوك
كنتُ أتمشى قبل غروب الشمس بنصف ساعة تقريبا، على جسر باب المعظم، الجسر العتيق الذي يحتضن التاريخ في كل حجر من أحجاره، ويروي بصمت حكايا العابرين، ويشهد على حنين المدن وحزنها، ووجعها، وجمالها الذي لا يذبل.
توقفت فجأة دون شعور، لم تكن قدماي مَن أرغمني على التوقف، بل القلب الذي ينبض حباً بها، المشهد الذي امتدّ أمامي كان أشبه بحلم، لكنه حقيقي، بغداد، تلك المدينة التي لطالما قيل عنها إنها “مدينة السلام”، لا تزال صامدة، تقف بشموخ على ضفّتي دجلة، كأنها تخبرنا: “أنا بغداد، لا أنكسر مهما حصل.”
نظرتُ إلى الكرخ، حيث أصالة المدينة، وإلى الرصافة، حيث يمتزج القديم بالجديد، العمارات السكنية، البيوت الشعبية، المآذن، القباب، والناس، كل شيء بدا كأنه يشترك في عزف سمفونية اسمها “بغداد” كأن الغروب يخجل من الرحيل حين يلامس وجه بغداد.
بغداد، مدينة لا تشبه إلا نفسها، لا، والله، لا توجد مدينة في العالم تشبه بغداد، زرتُ مدنا كثيرة، تجولت في شوارع اسطنبول، ودمشق ودلهي، وفي أسواق الشام، وتحت شلالات كوردستان، لكن لا أحد منها قال لي: “أنت ابن هذه الأرض” مثلما تقولها بغداد.
في بغداد، تتداخل الأزمنة، تمشي على الرصيف فتسمع وقع أقدام الرشيد، وتشمّ عبق الورّاقين في شارع المتنبي، وتلمح ظلّ الجواهري وهو يكتب للحرية، وعبد الرزاق عبد الواحد وهو يهتف: “سلامٌ على بغدادَ، ضاحكةً كأنَّ دموعَها في القلبِ نارُ”
في خيالي صور عبد الرزاق عبد الواحد كانت في كل مكان. على الجدران، على أعمدة الجسر، حتى في العيون التي مررتُ بها، كأن بغداد قررت أن تُخلّد صوت شاعرها، في لحظة من الغروب، حيث تصمت المدينة إلا عن الشعر.
مدينة كتبتها القصائد واحتضنها التاريخ، في كل زاوية من بغداد، قصة، لا مدينة تختزن كل هذا التاريخ والثقافة والوجع والنور سوى بغداد، كانت عاصمة الدنيا، قبلة العلم والأدب، ملتقى الفقهاء والشعراء، من هنا مرّ الجاحظ، والخليل، وأبو نواس، وابن الهيثم، هنا كُتبت “ألف ليلة وليلة”، وهنا وُلدت أعظم مدارس الطب والهندسة والفقه.
وها هي اليوم، رغم الخراب، رغم النسيان، لا تزال واقفة. ليست مدينة مكسورة، بل مدينة جريحة، تُصرّ على الحياة.
في بغداد، الناس يشبهون مدينتهم، الناس في بغداد شيء آخر، مزيج نادر من الطيبة والصبر والشهامة، تراهم يمشون في الأسواق، يحملون فوق أكتافهم تعب السنين، لكنّهم يبتسمون، يضحكون وكأنّهم لا يعرفون معنى الحزن.
شاهدت في الشواكة، امرأة تبيع الشاي بنكهة الأمل، وطفل يركض خلف الكرة في زقاق ضيق في العلاوي، وكهل يجلس أمام باب بيته في شارع حيفا يسبّح ويبتسم، وكل هؤلاء، بأفعالهم الصغيرة، يقولون للعالم: “نحن هنا، نحن أبناء بغداد.”
حين تتكلّم المدن، تصمت القصائد، حين نظرتُ إلى الشمس وهي تنسحب ببطء خلف الأفق، شعرت أن بغداد كانت تهمس لي، لم تقل كلاماً كثيرا لكنها أوصلت المعنى كاملاً: “أنا بغداد، لا تتخيلني من الماضي، أنا الحاضر الذي يُولد كل يوم من الرماد.”
وفي تلك اللحظة، تمنيت لو أستطيع أن أزرع في كل قلب صورة بغداد كما رأيتها، كما شعرت بها أن أجعل الناس يرون ما رأيت، أن يذوقوا طعم الحنين، أن يسمعوا صوت الشعر ينبض في جدرانها.
“بغدادُ لا تتعبُ، بغدادُ لا تركعُ،
بغدادُ في القلبِ، إنْ طالَ الزمنُ أو قصُر.”
ختامًا: هل نحب المدن، أم تحبنا هي؟
ربما لا نختار حبّ المدن، بل هي من تختارنا، وبغداد، منذ أول مرة وطأت قدماي شوارعها، لم تعاملني كغريب. كانت أمي، وصديقتي، وشعري الذي لم يُكتب بعد.
فهل توجد مدينة مثل بغداد؟
لا والله.