تعدد البؤرة الصوتية و محنة البطل في وداعا كولورادو لانس الفيلالي
سعيد الشفاج
يقال أنه كلما ارتفع منسوب الوعي إلا و اشتدت محنة الإنسان عامة و المثقف خاصة .لكن أن يصبح الوعي مركبان فالقضية تتحول إلى مأساة و تراجيديا . مناسبة القول هو باكورة أعمال الكاتب انس الفيلالي في روايته وداعا كولورادو .فبعد مسار حافل بالشعر و التاريخ يحط انس الرحال في باب السرد الروائي كي يشخص لنا الصوت اللامتفرد داخل بنية نصية يلعب فيها البطل أدوارا يتشابك فيها الذاتي مع الآخر، و الحدث مع الزمكان . هي ملحمة شاب طموح مليء بالأحلام و عاشق من درجة فارس، منسوب الوعي لديه يفوق التوقعات ،حيث يتمثل الفكرة و نقيضها في نفس الوقت، بل يسابق الزمن الروائي قبل وقوعه ، بسبب رهافة حسه و شحنة القلق الوجودين و الذي ينتهي به نهاية دراماتيكية، سعيد مبدع سيء الحظ في جل محطات الرواية .حتى منطلق الرواية عبر عن ذلك، إذ لم يستطع الحصول على روايته المفضلة في حفل توقيع و الأدهى أن نموذج الكاتب لديه سقط في أول لقاء، عندما طلب منه الكاتب / القدوة، مقابلا عن روايته . و تتوالى المحطات الصدامية إلى حين سقوطه مدرجا بدمائه في أسفلت الإهمال و الإقصاء الاجتماعي.
تنطلق البؤرة الصوتية بالأنا و هي مجزأة بين السارد البطل الخارجي سعيد و السارد البطل الداخلي النمرود، و هما معا في شخصية منفردة بالحدث و التفاعل، غير أن الأول يشكل الوعي الحضاري الايجابي، و الثاني يعبر عن الوعي الهمجي السلبي .البطل سعيد هو بطل ملحمي يصوغ رحلته من القصر الكبير إلى كولورادو الأمريكية، على أسئلة مقلقة تختزل في تيمات ثقافية و فلسفية يعجز هو عن الوصول إلى إجابات نهائية، بسبب عجزه عن مواجهة الواقع، و انغماسه في العيش داخل شخوص رواياته التي يقرؤها، هاته الأسئلة تركز على جدوى الكتابة و اهدافها و الحدود المنطقية بين الطموح الشخصي و الخدمة الإنسانية/ الأدبية و هذا يظهر في شخصية الكاتب / القدوة .
ثم سؤال الحب بين الرغبة الجسدية و العاطفة في تفاعله مع روزاليندا ناهيك عن مواضيع كشخصية الكاتب بين التلقي الجماهيري و الحقيقة غير المعلنة.
تتشذر شخصية سعيد فهو الطامح و اليائس في نفس الوقت ،كما أنه كائن يعيش على بؤرة ماضوية، حيث أحلام الطفولة و المدرسة و الحي مما يجعل صوت الماضي يقمع صوت الحاضر، حتى في حفلة التتويج عندما حصل على الجائزة الأولى فالشخص الذي اندمج معه في الحوار و تفاعل معه بشكل إيجابي كان ينتمي لجيل الخمسينات من القرن الماضي، في حين أن باقي المبدعين و الكتاب كانوا من أجيال متقاربة.
يفتت لنا الشخصية الداخلية إلى شخصيات ثلاث : سعيد و النمرود و تشي كيليطو .فكل هؤلاء يلعبون نفس الدور و هو تفتيت الشخصية البؤرية و تحويلها إلى كائن قلق .فالنمرود ( رمز الشر المطلق) يسكن بداخله و يفسد عليه لحظات الصفاء الفكري رغم نذرتها و لا سلطة لسعيد على التحكم فيه أو طرده لأنه قوة باطنية كاسحة .
إن ثنائية الشر و الخير في الرواية ليست خارجية، أي أنها من تشكل صراع ما داخلي،هي عبارة عن مونولوج ملحمي يحاول كل طرف الدفاع عن قناعاته لكن بنية الحوار هنا حافظت على تماسك البؤرة الشخصية و البطولية لسعيد . قوة تأثير النمرود في كونه يجاري سعيد و يدعم أفكاره المنجرفة للعنف و الخوف بطريقة احتيالية ماكرة مستغلا مساحة تأثير شخصيات الرواية التي يقرؤها
التبأير الصوتيرواية وداعا كولورادو هي تعبير عن إزدواجية الكائن المثقف، فسعيد كاتب حالم و عاشق فاشل يعيش بين واقعين متناقضين، و مستوى الوعي الفكري لديه أحد عناصر المأساة في مجتمع صغير كالقصر الكبير أو دار الدخان .و هو الحالم بمجتمع طوبوي أو وفق ما حدده أفلاطون في مدينته الفاضلة . المكان هنا إذن كمسدس كاتم للصوت يكتم طموح جيل برمته . لكن المثقف يجعل من خيالاته سلاحا لمواجهة فداحة الحياة حوله . حتى في علاقاته العاطفية فهو مطارد بالأخر/ الزوج، الذي يبقى في مساحة الظل التي حددها له السارد . تتصارع بداخل روزاليندا و سعيد فكرة الخيانة و تصبح مع مرور الحوارات التي جاءت ذكية و في غاية الجمالية ، عائقا يقف بين العاطفة و الجسد . هنا البطل الدرامي يحاول فك ارتباطه بالمكان، كي ينتقل بخياله الرحب في نصوص سردية يقرؤها و يفشل حتما في ذلك، لأن المكان ليس حدودا جغرافية أو مجرد انتماء مادي بل هو امتداد نفسي قوي لصيق بالإنسان أينما حل أو ارتحل . تندلع الأصوات بداخله و يحاول سعيد أن يفهم دور المثقف في مجتمع متخلف .شديد الارتباط بالماديات و المال و السلطة و في حواره مع زفزاف مثلا يسعى إلى إيجاد القدوة و المثال و يحاول التخلص من صوت النمرود الذي يطبث أحلامه و يسفه بعضها . هنا سعيد الكاتب يستقي من تاريخ الأدب رجالات عظام في محاولة التقمص العلوي ( حضور الآخر الأعلى) من جديد كدستيوفسكي و نجيب محفوظ و محمد شكري لأن صوت الماضي أقوى كما أشرت سابقا .لقد تحولت متعة الكتابة أو كما سماها رولان بارت بلذة النص إلى قلق و خوف لأن صورة الكاتب المشهور المحاط بالمعجبين أو العالمي حتى, وقفت حاجزا للخروج من عنق الزجاجة، فبقي البطل سعيد يترنح بين بؤرتين صوتيتين هما : سعيد ذاته و النمرود بداخله و الذي لم يكتف بعقبة النص بل زين له فكرة الانتحار قائلا : (المنتحرون أكثر الناس حبا للحياة و إلا لما انتحروا من أجلها )ص 45
من الإشكالات التي ناقشتها الرواية عبر أصوات شخوصها, الاعتراف بقيمة المثقف في المجتمع و منحه الدور الأساسي المنوط به، لكن هذا الاعتراف يصطدم سيما في المجتمعات النامية بشرط الانتماء الحزبي و استطاع أنس الفيلالي أن يبرزه بوضوح بعد إقصاء البطل سعيد من المشاركة في مهرجان أدبي في مدينته القصر الكبير، و هو الذي شغل ناسها بفوزه سابقا بجائزة قيمة .هنا سوف يجد النمرود كصوت انتقامي فرصة للتعبير عن غضبه من المجتمع المنافق . لكن يمكن أن نعتبر موقف النمرود رغم أنه شخصية شريرة في النص موقفا سليما و هو هنا يلعب دورا تنفيسيا سواء للبطل أو للقاريء
تأسست البنية اللغوية عامة على الأصوات المكتومة بداخل البطل ، سعيد كان يعيش حياة داخلية تؤثر على الأصوات الخارجية للمجتمع ، هذا المجتمع له قواعد و حدود و أخلاق، و في رحلة البطل من القصر الكبير إلى كولورادا سيدرك الوجه الموارب للأخلاق ، حيث انتهازية الكتاب و انهيار القدوة ، تنطلق الرواية من بينة السؤال و القلق و تنتهي في حافة الجنون ثم الموت، لقد استطاعت الرواية فعلي بوجود عنصرين في الحياة التي عاشها البطل و هما : القمة و الهاوية