صراع الهويات بين الفرض والقرض
منقذ داغر
1.تتعدد الهويات بتعدد المعاني
«في وسط الغابة الاجتماعية للوجود الإنساني لا يمكنك الشعور بالحياة بدون الشعور بالهوية» أريك أريكسون
يثار بين الفينة والأخرى موضوع الهوية الوطنية سواءً في العراق أو في البلدان المجاورة. جاءت كلمات رئيس البرلمان العراقي قبل أيام لتثير زوبعةً جديدة بخصوص هذا الموضوع المهم والشائك والذي تتداخل فيه المفاهيم الى الدرجة التي تجعل الكثيرين يسيئون فهم المعنى الحقيقي للهوية الوطنية وكيفية تمييزه عن المفاهيم الأخرى كالهوية الاجتماعية او الهوية الثقافية أو هوية الدولة وسواها من المفاهيم التي يجري تداولها دون تمييز واضح بينها مما يجعل الكثيرين يخوضون نقاشات وجدالات ومعارك(الكترونية) في حين أنهم يتحدثون عن مفاهيم مختلفة. تهدف سلسلة المقالات هذه الى فض الاشتباك المفاهيمي أولاً بحيث يتضح معنى الهوية الوطنية دون لبس، ثم توضيح أهميتها لبلداننا، وأخيراً كيفية تخليقها بالاستفادة من التجارب العربية الفاشلة من جهة، ومراعاةً للظروف السائدة من جهة أخرى. بدأ مفهوم الهوية Identity كمفهوم فلسفي-نفسي-فردي ناقشه أفلاطون في جمهوريته، وفرويد في تحليله النفسي الهادف لتمييز الأشخاص عن بعضهم البعض عن طريق ما يشعرون به (داخلياً) تجاه أنفسهم من خصائص نفسية وانفعالية تميزهم عن الآخرين. بناءً على هذا المفهوم فقد أصدر العالم أريك اريكسون Erik Erikson في نهاية ستينات القرن الماضي كتابه الذي قال فيه ان الشعور بالهوية هو ليس فردياً فقط وانما يمكن ان يكون جماعياً حين يدرك الافراد ليس فقط ما يميزهم عن الآخرين، بل ما يجعلهم ايضاً مشتركين معهم في خصائص معينة. وبذلك تحول مفهوم الهوية الهادف للإجابة عن السؤال الفلسفي الكبير «من انا؟» من مفهوم تمييزي (ما الذي يميزني عن الآخر) الى مفهوم جمعي (ما الذي يجمعني بالآخر). وهكذا فقد تضمن مفهوم الهوية مفارقة داخلية ضمنية تجمع بين (المشترك والمميز) في آنٍ واحد مما جعل هذا المفهوم جدلياً بخاصة عندما أضيفت له مصطلحات أخرى لا تقل جدلاً عنه مثل السياسة (الهوية السياسية)،والدولة (هوية الدولة)، والاجتماع (الهوية الاجتماعية)، والوطنية(الهوية الوطنية) ...الخ. أن مفهوم الهوية يستند أساساً الى شعور انساني فردي أو جماعي محسوس ولا يستند الى مفهوم مادي ملموس.
هوية قومية
بهذا المعنى يصبح من السهل التمييز بين هوية الدولة والهوية الوطنية مثلاً، لكنه يجعل التمييز صعباً -لكنه ليس مستحيلاً- بين الهوية الوطنية والهوية القومية أو الدينية أو الطائفية أو حتى السياسية. كيف ذلك؟
بما أن مفهوم الهوية هو مفهوم شعوري أنساني يختص به الأفراد والجماعات ويدركون من خلاله ما يجمعهم وأو يميزهم عن الآخر فهو أذاً لا وجود له حينما يتعلق الموضوع بهوية الدولة State Identity لان الدولة مفهوم مؤسسي مادي ليس لها شعور. لكن ذلك لا يعني عدم وجود هوية للدولة فنحن هنا نتحدث عن البعد غير النفسي للهوية أو ما أسميه بالبعد الخصائصي أو التعريفي. وهو بُعد ظاهر ملموس وليس ضمني غير مادي كالمشاعر والثقافة. فهوية الدولة مثلاً هي مصطلح سياسي-قانوني يستخدم غالباً لوصف المنطقة الجغرافية والمؤسسات الحاكمة وطريقة عملها لدولة ما. أما الهوية الوطنية National Identity فهي تتعلق بشعور الأفراد تجاه الانتماء للدولة. بمعنى أنك قد تكون مواطناً في دولة ما وتحمل هويتها القانونية لكنك لا تشعر بانتمائك لها فعلياً.
نأتي للجزء الأصعب في التمييز بين الأنواع المختلفة للهوية الشعورية الإنسانية. بما أن الإنسان يمتلك مشاعر كثيرة مختلفة ومتباينة بل ومتصارعة أحياناً، فليس مستغرباً شعوره بأكثر من هوية أو إنتماء في ذات الوقت.
من هنا تتعد المفاهيم الهوياتية التي سأحاول التمييز بينها قبل الإنتقال للتعريف بأهمية الشعور بالهوية الوطنية. ولأن الأنسان هو لاعب لأدوار مختلفة خلال تفاعله الإنساني مع الأفراد والمجاميع الأخرى فلا بد أذاً من نشوء مشاعر فردية مختلفة بخصوص العضوية أو الانتماء لمجموعات إنسانية مختلفة.
فالأنتماء لقومية معينة يخلق هوية قومية، والأنتماء لدين معين يخلق هوية دينية أو طائفية وهكذا الأمر مع الانتماء لدولةٍ ما. كل هذه الانتماءات تخلق مشاعر إنسانية متباينة في شدتها وتأثيرها على سلوكنا الشخصي ضمن تلك الجماعات. وكما يحصل في حياتنا الشخصية -في كثير من الأحيان- من تعارض، بل وتصارع بين أدوارنا الحياتية المختلفة فقد يحصل هذا التعارض بين هوياتنا المختلفة ايضاً.
معتقداتك دينية
تصور أن لديك التزام عائلي معين يتعارض مع التزامك تجاه أصدقائك فما هو الدور(الالتزام) الذي ستفضله على الآخر؟! بنفس الطريقة تصور أن معتقداتك الدينية تتعارض مع التزاماتك الوطنية كما يحصل مع اليهود (الحريديم) الذين تمنعهم معتقداتهم الدينية من الانخراط والخدمة في الجيش «الإسرائيلي» فما العمل آنذاك؟ وأي الهويتَين والمعتقَدَين ستكون له الغلبة؟ هذه هي الإشكالية الكبرى التي تواجه مجتمعاتنا الحالية والتي سأحاول تفكيك الإجابات المحتملة عنها.
* القرض يأتي هنا بمعنى النظم. يقال قرض الشعر بمعنى نظمه على وفق قواعد.