الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العربية بعيون غربية

بواسطة azzaman

العربية بعيون غربية

يسرى عبد الوهاب

 

ظهرت صورة المرأة العربية في الغرب مع ازدهار الفن الاستشراقي في القرن التاسع عشر، إذ شكلت الموقع الاثير في ذهن الفنان الغربي فرصد من خلالها جاذبية الشرق وعبر عن توقه اليه.

وجاء هذا الرصد في سياق عملية استعماره له (عسكرياً وفكرياً وفنياً) ومن خلال هذا الاستعمار اخترق الإنسان المذكر الأوروبي الساخر فضاء الشرق المؤنث الساحر, فسُحرت اوربا بالحجاب والحريم ,ونفرت منهما في أن معاً، فقد عبر هذان الرمزان من جهة أولى على الحيلولة بين المراقب الأوربي ورؤية النساء كما هن في واقع حياتهن اليومية  او الاتصال بهن مما ايقظ لديه مشاعر الاحباط والسلوك العدواني ,ومن جهة أخرى وفر ذلك للغرب وخاصة الفنانين فرصة الجموح بالخيال والتلويح بتجارب غريبة وشهوانية مع  تلك الجميلة المحجبة .

فصوروا المرأة العربية  بأنها مخلوق مسكين مستكين محجم ينتمي الى حريم احد الأثرياء ، ونتيجة للتوجهات العدوانية عمد الفنانون المستشرقون الى التلصص من ثقب الباب الموجود في خيالاتهم ,لذلك نراهم مهووسين بتصوير النساء في مخادعهن أو على شرفات البيوت بوضعيات جنسية رغم أن أغلبهم لم يدخل مخدع احداهن أبداً عدا من كانت ابوابها مشرعة في وجوههم من اللواتي لا يمتن الى العرب بصلة ،  فأحتل تصوير ( لحرملك ) مكاناً مميزاً في لوحات المستشرقين وأحتل الخيال مكان الواقع ,وتحديداً الخيال ببعده الجنسي.

مكانة مرموقة

فبرزت نتيجة لذلك صورة المرأة (الحريم) وهي مستريحة بين الوسائد الحريرية وهي عارية أو ملتفة بالأردية الثمينة، فكان لهذه الصورة تأثير كبير في الذهن الغربي لما يحتله الفن في تلك البلدان من مكانة مرموقة وموثوقة، فأعتمدها نتيجة لذلك كأيقونة ثابتة عن المرأة العربية.

ونتيجة لما افرزه عصرنا الحالي من اصلاحات شاملة وكبيرة وأهمها وما يخصنا في هذا السياق فكرة تحرير المرأة ودخولها يداً بيد مع الرجل في عولمة هذا العصر، أصبح لزاماً علينا أن نتفحص وننقب في تلك المفاهيم الخاطئة التي أوصلها الفنانون المستشرقون الى العقل الغربي والتي طورها ذلك الاخير مبالغاً ومفعلاً لحملته الاستعمارية الفكرية الموجهة الى الشرق عبر مجموعة من اللوحات الفنية الرومانسية الاستشراقية التي عملت على اضفاء هالة مشوهة وغير حقيقية وغير متوافقة منطقياً مع الواقع الاجتماعي والتاريخي والديني للمرأة الشرقية بشكل عام والعربية والمسلمة بشكل خاص.

فنلاحظ ان المدة التي تلت فشل الحروب الصليبية حيث أمر القديس لويس ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثامنة أنه لا سبيل الى النصر والغلبة على المسلمين عن طريق القوة الحربية ، لذا سيتعين تحويل المعركة من ميدان السلاح الى ميدان العقيدة والفكر, الامر الذي اتاح المجال الاوسع للمستشرقين بالمغالاة فيما بدأوا به.

لذلك ليس من الغريب أن نجد تطابقاً بين ما قدمه فنانو الغرب وبين الطريقة التي ينظر بها الغربيون لنا ولحضارتنا ومعتقداتنا وتقاليدنا بشكل عام وللمرأة العربية تلك التي شاهدوها في لوحات المستشرقين بشكل خاص.

وفي التاريخ العديد من الادلة التي تؤيد شكنا بتلك النوايا ، وهي كثيرة ومتنوعة وقد لا يسع المجال لتسليط الضوء عليها جميعا , الا ان اهمها كانت حملات نابليون بونابرت عام (1798) والتي أدت دوراً أساسياً في توجيه الفنانين الفرنسيين نحو الموضوع الشرقي الاسلامي ، واستقبال مصر للخبراء الفرنسيين بعد توقيع (محمد علي باشا) والي مصر اتفاقية التعاون مع فرنسا، ثم تلتها في العام 1830 حملة الجيش الفرنسي على الجزائر, مما ولد بيئة حاضنة وملائمة لازدهار خيال الفنان الرومانسي التي تجسدت بلوحاته الزيتية المليئة بالمشاهد المثيرة للنساء.

فكان لهذه الظروف التاريخية والاقتصادية والعسكرية اثرا مباشراً في انفتاح ابواب الشرق امام قوافل الفنانين الطامحة الى الثروة والشهرة واقتناص كنوز العرب ،وهكذا كانت نشأة الاستشراق في البلاد العربية، الذي اصبح فيما بعد فناً مستقلاً له مريديه وما زالت لوحات الاستشراق تلاقي رواجاً كبيراً في المعارض الدولية.

وكان الرسامون الفرنسيون سباقون الى استلهام الموضوعات المتنوعة والمثيرة في بيئة المغرب العربي بشكل خاص ولا غرابة في ذلك لأن جل بلدان هذه المنطقة كانت مستعمرات فرنسية ، كما كان لكتاب الف ليلة وليلة وانتشاره في الغرب بعد ان  حمله الفنانون والادباء الغربيون الى بلادهم وامعنوا في دراسته وتحليله حتى تحول كتاب  الليالي ذاك الى وحي لفنانين كثيرين ومنبعا لأفكار أخصبت خيالهم.

حيث عمدوا الى ترجمته الى لغاتهم الام  للحفاظ عليه من الضياع بعد ان قام الفرنسي (انطوان غالان) بترجمة الكتاب للفرنسية بمعاونة (جوته ودولاكروا), اللذان يعدان من اعلام الادب والفن التشكيلي في المدرسة الرومانسية .

وشكلت المرأة العربية في ذلك الكتاب صورتين، الاولى استمدها القاص من حياته داخل الطبقة الوسطى، والثانية أستمدها من خياله , حيث صورت تلك الليالي انماطاً من المرأة وليست شخصية بعينها مثل الجارية والراقصة والعجوز الماكرة.

نواحي استعمارية

ومن الادوار المهمة التي أدتها المرأة في ذلك الكتاب ايضا, دور العاشقة والكائدة وصاحبة السحر الأسود ,كما جسدت فيه ادوارا ثانوية لها وهي المحاربة والجنسية، وهذا ما أكدته الناقدة سهير القلماوي عندما قالت « لن نبالغ اذ قلنا أن الف ليلة وليلة كانت الحافز الأهم لعناية الغرب بالشرق عناية تقوي النواحي الاستعمارية والتجارية والسياسية « .

كما ساعد انتشار الازياء الشرقية في بلاد الغرب بعد سقوط القسطنطينية في ايدي العثمانيين الى انتشار المظاهر الشرقية في اوربا, بعدها شرع الفنانون الأوربيون برسم أزياء الاتراك بقفاطينهم وعمائمهم المرصعة بالجواهر, كما أسهم ايضا حضور السفراء العثمانيين الموفدين الى بلاد الغرب مع جواريهم بثيابهن المزركشة التي كانت محط أنظار الجميع, حتى تحولت الفكرة العامة لتلك الأزياء الى تصميمات الموضة الانكليزية ولاقت رواجا كبيرا داخل المجتمع الغربي ،فساعدت هذه العوامل مجتمعة او متفرقة على ترسيخ نظرة الغرب الى جميلات الشرق كما يطلقون على المرأة العربية في احاديثهم اليومية وافكارهم المشيرة الى انها الجارية والمحظية ,وليس اكثر من ذلك .

وهذا ما تكشفه لنا العناصر والافكار المتضمنة في لوحاتهم، حيث نجد أن الفنان قد اسقط عاطفته المشوهة نحو المرأة العربية من خلال ايقاع تعبيري للألوان والخطوط الدقيقة  في اشارة واضحة الى الاستمتاع والنشوة . وتتناقض هذه الصورة تناقضا شديدا مع تاريخ المرأة العربية قديما وحديثا والذي لا تكفيه سطورنا هذه, ويكفينا فخرا عرض حركة النهضة النسوية العربية التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر والتي عكست الطبيعة الفكرية للمرأة العربية بشكل عام واهتماماتها وتطلعاتها في تلك المدة، وطموحها للحرية والمساواة والعمل بصورة لا تتطابق مع الصورة التي قدمها المستشرقون عنها, والتي لم تكن ولن تكون يوما عليها, فلا يمكن للجارية والمحظية التفكير في الأدب والفن والعلم .

 ان حقيقة تصوير النساء في لوحات المستشرقين بهيئات جنسية بحتة استندت الى مرجعيات فكرية تخدم الفكر الغربي الاستعماري الهادف الى تشويه شخصية المرأة العربية وإظهارها على انها رمز للجنس والجمال دون التركيز على دورها البارز في المجتـــــمع ومهمتها في التربية والتنشئة , ولو كانت كما تم تصويرها جارية او محظية لما ظهر من ابناءها من حمل لواء التحرر من قيود العبودية , فلا يمكن لعبد تقديم الحرية لأحد.

وهل يعقل ان يكون جمال الدين الافغاني واحمد فارس الشدياق اورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده و غيرهم الكثير ابناء لجواري ومحظيات؟  لذا يعد الفن سلاحا مهما للتغيير ولا يجب ان يحمله اولئك الخائفون ، المشوهون في ارواحهم .

 

 


مشاهدات 69
الكاتب يسرى عبد الوهاب
أضيف 2025/06/17 - 3:39 PM
آخر تحديث 2025/06/18 - 4:26 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 585 الشهر 11855 الكلي 11146509
الوقت الآن
الأربعاء 2025/6/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير