مجلس السفير دزئي العامر
عبد الحسين شعبان
دأبت كلّما زرت أربيل حضور مجلس السفير السابق، والشخصية الكردية المرموقة محسن دزئي، مثلما كنت أحرص على زيارته واللقاء به.
ومجلس دزئي يزخر بالشخصيات الوطنية والاجتماعية المحترمة من شتّى الاتجاهات والألوان، وهو عبارة عن صالون ثقافي – فكري، وسياسي – اجتماعي في الآن، والكل يحضر وهو يشعر بالتقدير والاعتزاز لصاحب المجلس والقائمين عليه، فقد كان محسن دزئي المتخرج من كلية الحقوق لصيقًا بقيادة الثورة الكردية وممثلًا شخصيًا لزعيمها الكبير الملّا مصطفى البارزاني، واحتلّ مناصب ديبلوماسية وسياسية رفيعة، وقد استمرّ في مرافقة زعيم ثورة أيلول / سبتمبر حتى أيام حياته الأخيرة، كما ظلّ وفيًا لتلك العلاقات الوثيقة في جميع الأوقات، في الضيق قبل الرهاوة، ولذلك حظي بتقدير النخب الكردية بشكل خاص والعربية بشكل عام، وأينما ذهب وحيثما كان، فهو يملأ مكانه مثلما ملأ زمانه.
اكمال الدراسة
ربطتني بكاك محسن دزئي بعيدًا عن الألقاب صداقة وعلاقة توطّدت مع مرور الأيام، فقد تعرّفت عليه وهو سفير العراق في براغ، وأنا وصلت لتوي إلى العاصمة التشيكية لإكمال دراستي العليا لنيل شهادة الدكتوراه.
ثلاث مفارقات
المفارقة الأولى - صادف بُعيد وصولي بفترة قصيرة اعتقال الشخصية الشيوعية البارزة ثابت حبيب العاني (أبو حسّان)، فكلّفت بقيادة وفد احتجاجي إلى السفارة مكوّن من 24 طالبًا عربيًا بضمنهم أربع فتيات عراقيات من بعض عوائل الشهداء.
واتّجهنا إلى السفارة وكانت في شقة واسعة قبل شراء فيلا، وقرعت الجرس، وعندما تم فتح الباب، أشرت إلى أعضاء الوفد بالدخول، وفوجئ أركان السفارة، فقلت بصوت عال أننا جئنا للاحتجاج سلميًا، ونريد مقابلة السفير لتسليمه رسالة احتجاج، وبعد أخذ ورد، وافق السفير على لقاء أربعة من أعضاء الوفد، وتليت عليه رسالة الاحتجاج على اعتقال ثابت حبيب العاني ومطالبتنا بإطلاق سراحه علمًا بأنه كان قبل ساعات من اعتقاله في لقاء ضمّ عزيز محمد (أمين عام الحزب الشيوعي)، إضافة إلى الرئيس أحمد حسن البكر وصدام حسين نائبه. وانعقد الاجتماع في بيت مظهر المطلك شقيق السفير لاحقًا منذر المطلك.
واستقبلنا السفير دزئي بحفاوة كبيرة وشكرنا على حضارية احتجاجنا السلمي، بعد أن سلمناه رسالة الاحتجاج التي وعد بإرسالها إلى رئيس الجمهورية وإلى وزارة الخارجية، وإذا لا يوجد لدينا مانع فسيرسل نسخة منها إلى القائد البارزاني، فرحبنا بذلك.
أما قصة اعتقال ثابت العاني فلها حكاية أخرى سبق لعامر عبد الله ومهدي الحافظ أن أدليا بدلوهما فيها، وقد جئت عليها أكثر من مرة، بما فيها ذيولها التي سمعتها بعد العام 2003 من السفير السابق منذر المطلك خلال إقامته في عمّان، علمًا بأنه هو من قام بإيصاله بسيارته إلى منطقة الكرادة ومن هناك اختفى قسريًا، ثم أعلن عن وجوده في قصر النهاية بعد تأجيل زيارة غريشكو وزير الدفاع السوفييتي، الذي كان مقررًا زيارته إلى بغداد، وقد جئت على ذلك خلال تقريظي كتاب الدكتور فرحان باقر “حكيم الحكام.. من قاسم إلى صدام”، علمًا بأنني كنت قد استمعت إلى الرواية كاملةً من صاحبها ثابت حبيب العاني (أبو حسان)، بما فيها اتهامه والاعتذار منه لاحقًا من قبل إدارة الحزب الشيوعي.
المفارقة الثانية - حصلت مفارقة ثانية مع السفير محسن دزئي، فبعد نحو عام على المفارقة الأولى أقدمت الحكومة العراقية على تأميم النفط في 1 حزيران / يونيو 1972، فترأست وفدًا يُحيي موقف بغداد ويؤيد تلك الخطوة الشجاعة، وحضر معنا لتغطية الخبر مفيد الجزائري من الإذاعة التشيكية القسم العربي وهكذا من الاحتجاج إلى التأييد، وهو ما علّق عليه بظرافة.
وكنت بين الحين والآخر ألتقي الأستاذ محسن دزئي في أحد المطاعم، وحرصًا على الخصوصية، كان كلّ منّا يغضّ الطرف عن الآخر وكأنه لا يعرفه.
وقد جاء دزئي على ذكر المفارقتين في مذكراته، وكذلك في حوار تلفزيوني أجري معه، وحين كنّا نلتقي في السنوات الأخيرة، كنا نستذكر تلك الأيام، وقبل أن يغادر موقعه منقولًا إلى كندا أقمنا له احتفالًا توديعيًا، حضره شخصيات من اتحاد الطلاب العالمي، وممثلنا آنذاك مهدي الحافظ.
المفارقة الثالثة - كانت العلاقة على أحسن ما يُرام في فترة وجود دزئي، ولم يكدّرها حتى بعض المنغصات. أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، فقد تمّ الاتفاق مع جمعية الطلبة الأكراد، التي كان يرأسها طارق عقراوي السفير لاحقًا، على إحياء الذكرى الثانية لمناسبة بيان 11 آذار / مارس 1970، وأعرنا الفرقة الفنية لجمعية الطلبة العراقيين، التي كنت أترأسها، وصادف حضور علي صالح السعدي القيادي البعثي المعروف، الذي كان ديزئي قد دعاه لحضور الاحتفال.
وحين بدأ الاحتفال بالأغاني والمقامات العراقية القديمة، بادر السعدي على القيام من موقعه بجانب السفير دزئي وإلى جانبه عبد الستار الدوري (الملحق الثقافي)، وموسى أسد الكريم والملحق العسكري ليصافح قارئ المقامات العراقية (علاء صبيح)، الذي ما يزال حيًا يرزق في براغ، فما كان من هذا الأخير إلّا أن سحب يده وظلّت يد السعدي ممدودة، ولم يكتف بذلك، بل خاطبه أن يدك ملطخة بالدماء، واحتدم الموقف وجاءني طارق عقراوي راكضًا طالبًا مني معالجة الموقف بأمر من السفير، ذهبت إلى طاولة السفير واعتذرت من الجميع عما حصل، وجلست معهم لنحو ربع ساعة تطييبًا للخاطر، واحترامًا لأجواء الاحتفال، خصوصًا لأننا ضيوف، إضافة إلى أننا مشاركون فيه، ونحرص على إنجاحه.
وعلى المستوى الشخصي والتاريخي خرجت بحصيلة مهمة وهي موعد لنحو نهار كامل مع السعدي أجريت معه حوارات مطوّلة، دقّقت بعضها مع عبد الستار الدوري الذي حاول معالجة الموقف بعد يومين مما حدث، فدعا نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وآرا خاجادور وعلي صالح السعدي وموسى أسد الكريم والجواهري والعبد الفقير، الذي لم يتمكّن من الحضور، كما رويت ذلك، علمًا بأن ما حصل كان إحراجًا كبيرًا لمحسن دزئي المضيف.وأعود إلى العلاقة مع دزئي، ففي مؤتمر فيينا ومؤتمر صلاح الدين 1992، تم اختيارنا أعضاء في المجلس التنفيذي للمؤتمر الوطني العراقي، لكنني استقلت منه وأعلنت انسحابي (الربع الأخير من العام 1993)، بسبب تعارض موقفي، من الحصار الدولي الجائر والرهان على القوى الخارجية، مع الموقف العام للمؤتمر. لكن العلاقة استمرّت وتعمّقت، مع دزئي والعديد من قيادات الحركة الكردية والوطنية العراقية بمختلف توجهاتها في حينها.
وأتذكر أنني أرسلت رسالة إلى الرئيس مسعود البارزاني بعد اجتماعي بهوشيار زيباري ومحسن دزئي تدعوه مثلما تدعو مام جلال الطالباني إلى وقف اقتتال الأخوة، الذي استمرّ أربع سنوات (1994 – 1998)، وذلك بصفتي رئيسًا للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، واستلمت جوابًا من الرئيس مسعود ومن مام جلال وترحيبًا بأية مبادرة للسلام على هذا الصعيد (والرسائل منشورة في حينها).
القاء المحاضرات
وكنت خلال فترة المعارضة أزور كردستان لإلقاء محاضرات على طلبة الدراسات العليا في جامعة صلاح الدين (كلية القانون والسياسة) وأحرص خلالها على زيارة كاك محسن دزئي في مصيف صلاح الدين، الذي ظلّ حريصًا على أن يعطيني صورة عن الوضع، كما يحاول أن يستأنس برأيي كصديق للشعب الكردي، وهو الأمر الذي استمرّ كلّ هذه السنوات، سواء في متابعتي للتجربة الكردية أو في حرصي على إبراز أهمية العلاقات العربية – الكردية منذ أول حوار نظمته في لندن في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، حضره 50 مثقفًا نصفهم من العرب ونصفهم الآخر من الكرد (1992).
وحتى خلال فترة الاستفتاء وتوتر العلاقات كتبت نحو 9 مقالات تتناول ما هو استراتيجي وبعيد المدى ومبدئي ودعوت إلى ضرورة عدم الاستغراق بالظرفي والطارئ والمؤقت، آخذًا بنظر الاعتبار الاستفادة من التجربة التاريخية ودروسها الثمينة وعدم تكرار أخطاء الماضي، مؤكدًا على حق تقرير المصير للشعب الكردي.
في زيارتي الأخيرة لكاك محسن دزئي، كان يصطحبني فيها الصديقان البروفيسور شيرزاد النجار والوزير السابق سعادة القاضي آزاد الملّا أفندي، وهما شخصيتان أربيليتان محترمتان وعنصرا تواصل ومحبة.
باستمرار كان مجلس دزئي عامرًا وصدور أهله وقلوبهم مفتوحة لاستقبال الزوار والأصدقاء بكرم أخلاق وصداقة حقيقية ومحبة للناس والخير.