الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المتنبي.. قراءة جديدة


المتنبي.. قراءة جديدة

حمزة مصطفى

 

هذه ليست قراءة نقدية. كنت ناقد سابق واعرف ان التصدي لقامة شعرية بحجم المتنبي تحتاج إلى المزيد من الأدوات النقدية. مثل النجار او اللباخ عندما تكون عندك شغلة ببيتك يحضر له بيكب تحتوي على “ كومة غراض” حتى يصلح حايط او باب او درج او شئ من هذا القبيل. مع ذلك من الممكن أن أقول رايا انطباعيا اذا وضعناه في خانة النقد الانطباعي مع ان هذا النوع من النقد صار من الماضي بعد البنيوية وما بعد البنيوية واللسانية والى ذلك من مدارس النقد وتوجهاته الجديدة. انا من جيل كان “ يهيم” بالمتتبي.

اخت سيف الدولة

 قراته في صباي “ منتصف سبعينات القرن الماضي” وما بعدها. كانت قصائده تهز مشاعرنا. يمدح واحد حتى لو كان “ هلفوت” كأننا نحن من نمدح. يهجو واحد حتى لو كان “ طرطبة” او حتى كافور كأننا نحن من أخذنا حيفنا منه، مع اننا لا نعرف كافور ولا الطرطبة لكننا مع أبي محسد قلبا وقالبا.

عندما ماتت خولة اخت سيف ورثاها في قصيدته التي يقول فيها “ يا اخت خير اخ يا بنت خير ابِ ... كناية بهما عن أشرف النسبِ.  طوى الجزيرة حتى جاءني خبر.. فزعت فيه بامالي إلى الكذب. ولما لم يدع لي صدقه أملا..  شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي”.  كأننا نحن من فجعنا بها لا هو مع ان الفارق بيننا الف سنة. حين ماتت جدته التي يصفها بأنها بنت اكبر والد احمرت عيوننا دمعا لموت الحجية بيبية شاعرنا الذي يشبه عمرو بن كلثوم الذي “ الهى بنو تغلب عن كل مكرمة”. كان شعارنا كل شي يهون من أجل المتنبي. مدح سيف الدولة صفقنا له. هجى كافور صفقنا له. يزعل نزعل مثله. يرضى نرضى مثله. لا يوجد حل وسط في علاقتنا بالمتنبي. حتى الجواهري “ محمد مهدي” وهو “ شاعر العرب الاكبر” في العصر الحديث كان يهيم حبا بالمتني والدليل قصيدته التي ألقاها عام 1978 في المكتبة الوطنية انذاك لمناسبة مرور الف عام على وفاة المتنبي التي يقول مطلعها “ تحدى الموت واختزل الزمانا.. فتى لوى من الزمن العنانا

فتى خبط الدنا والناس طرا .. وال ان يكونهما فكانا”. الان قررت إعادة قراءة ديوان المتنبي باجزائه الأربعة بمجلدين من شرح عبد الرحمن البرقوقي، وتوقفت عند أكثر من مسألة. في المقدمة منها ان ما قراته وحفظته عن ظهر قلب قبل 50 عاما او اكثر هو نفسه المثير واللافت في شعر المتنبي. لم أعثر على بيت جديد مما كنت حفظته وأبناء جيلي من المتنبي. ماذا حفظت وحفظنا؟ القصائد او الابيات التي تتغنى ببطولاته ومعظمها “ فارغة” من اي محتوى حقيقي. بل همنا في وقتها حتى في “ ملخياته” وهي كثيرة. المتنبي في الواقع لم يكن شاعر مدح الا ما ندر بل شاعر “ نفخ”. فلقد مدح أناسا لا وزن ولا حجم ولا تأثير ولا احد ترك أثرا في التاريخ حتى بعد أن مدحه أو هجاه، ما عدا اثنين وهما .. سيف الدولة الحمداني وكافور الاخشيدي. أحبَّ سيف الدولة وكره كافور ولذلك لم يكن مدحه لسيف الدولة الا بناء موقف حب مسبق، ولم يكن هجاؤه لكافور الذي كان مدحه ايام اختلف مع سيف الدولة الا بناء على موقف كره مسبق.

هل هذا الذي قلته وهو رأي انطباعي يقلل من قيمة المتنبي؟ بالتأكيد لا. فشاعر بحجمه تخطى امر إعادة التقييم بعد كل ما قيل وكتب عنه. انا شخصيا أُحِب المتنبي حين يتألق مثل هذا البيت الذي يعد من معجزات المتنبي حيث جمع فيه ست مطابقات” ازورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي”. او قوله على لسان حصانه في شعب بوان في بلاد فارس “ يقول بشُعبِ بوّانٍ حصاني... أعن هذا يساق إلى الطعانِ ..

الامة العربية

أبوكم آدمٌ سنَّ المعاصي...

 وعلمكم مفارقة الجنان

 أو “ أدرن عيوناً حائرات كأنها .. مركبة احداقها فوق زئبقِ”.

لكن مع ذلك عند قراءتي الثانية له لم اجد ما هو جديد على كثرة ما كتب من شعر هامت به الأمة العربية لأنه في الواقع ما يحتويه من درر شعرية ينتمي إلى مجال الشعر عبر أغراضه المعروفة التي تخرج من ميدان “ الشعرية” إلى ميدان الحياة مثل المدح او الذم او الهجاء، بينما لو تأملنا شاعراً مثل امرئ القيس الذي لم يترك شعرا كثيرا مثل المتنبي، لكن ما تركه من شعر، فضلا عن كونه اول ما وصلنا من شعر عربي، فإن أحدا من وجهة نظري لم يستطع تجاوز امرؤ القيس بمن في ذلك المتنبي نفسه. امرؤ القيس صاحب اول معلقة وصلتنا في زمن الجاهلية -وبالمناسبة الجاهلية تسمية خاطئة- لكن هذا ليس وقتها.  لم يصلنا من شعر قبل القيس سوى أبيات تعود المهلهل بن ربيعة الذي هو بالمناسبة خال شاعرنا المعني. للخيلفة عمر بن الخطاب “ رض” رأي مهم في امرئ القيس عندما قال أنه “ هو الذي خسف لهم عين الشعر”. امرؤ القيس ترك ثلاث قصائد هي معلقته التي مطلعها “ قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ.. بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ”. وقصيدته الثانية ومطلعها “ ألا عِمَّ صباحاً أيها الطللُ البالي.. وهل يَعِمَنّ من كان في العُصر الخالي”. وقصديته الثالثة المذهلة ومطلعها “ سما لك شوق بعد ما كان اقصرا .. وحَلّت سُليمى بطنِ قوٍ فعرعرا

كنانيةٌ بانت وفي الصدر ودُّها .. مجاورةً غسان والحي يَعمُرا

والتي يقول فيها ابياتاً مشهورة،

«بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونهُ

وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا

فقلتُ له لا تبكِ عينُك إنما

نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا”.

من وجهة نظري أعظم شاعر هو امرؤ القيس لا المتنبي. المتنبي ينتمي إلى المجال العام، بينما امرؤ القيس ينتمي إلى مجال الشعر. الشعرية هي التي تحكم أداء امرؤ القيس بينما الشعر بوصفه غرضا مدحيا او رثائيا او هجائيا هو الذي يحكم مجال المتنبي او مساحة القول عنده.

 


مشاهدات 53
الكاتب حمزة مصطفى
أضيف 2025/05/10 - 12:14 AM
آخر تحديث 2025/05/10 - 9:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 478 الشهر 11727 الكلي 11005731
الوقت الآن
السبت 2025/5/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير