الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العائد من محنته..  قراءة في قصائد( الحياة في غلطتها)


العائد من محنته..  قراءة في قصائد( الحياة في غلطتها)

جاسم عاصي

 

التي نعنيها ؛ هي الأحداث وتأثيراتها المرهونة بالزمن . والعودة هنا ، تعني الخروج من بابها الصارم باتجاه فضاء الشعر . علماً أن قصائد ديوان ( الحياة في غلطتها) قد وضعتنا ضمن حقبة ( الثمانينيات ، التسعينيات ) من القرن المنصرم . ولم يغب عن بال شعراء تلك الحقبتين ، ما لأثرهما من عمق راسب في الوجدان العراقي ( حرب وحصار) صحيح أن الشعر خطاب الذات إلى الذات ، إلا أنه كبنية لا تتعالى على الواقع . فمن رحمه تنبثق ، وإليه تعود معافاة . لذا نجد أن شعر ( زعيم نصّار) يأخذ من الزمن مؤثراته ، ويُعطيه من رؤيته ونظرته وموّقفه إزاء ما كان يجري . ليس من باب النقد المباشر ، بقدر ما يضع مهمته الشعرية ، ضمن حقل القوّل الشعري الخالص . فهو مقتفي أثر ما جرى ، مستلهماً أهم تأثراته على الذات والمجموع ، مما يضعه أمام مسؤوليته الشعرية من جهة ، وضمن مسؤولية خطابات شعرية لأقرانه من جهة أخرى . الخطابات التي أجد فها سمو شعرية الشعر ، تبرز  من خلال بساطة الطرح ، وعمق الدلالات . ويمكن أن نستنتج من شعرية الشاعر ، روح التماسّ مع ما يجري . ببساطة شديدة ، يتناول الشعر هنا المهمل والمهمش . وقد ذكرنا هذا في كتابنا ( مرايا الشعر) ونحن بصدد دراسة شعر ( سعدي يوسف ، مصطفى عبد الله) وما حفل به شعرهما من روح الاقتراب من اليومي والسائر والسائد في الزمن ، ضمن زوايا اكثر شعبية ، وبساطة وبراءة كبراءة الشجر والأنهار والأرض ، كذلك شعر ( عيسى حسن الياسري ) واقترابه من الشعر الرعوي. لذا كان شعرهما والشعراء الذين اقتفوا أثارهم باقتدار ذاتي مميّز . وهذا ما دفعهم إلى  الاقتراب من الأسطورة ، لا من حيث اتخاذ الأساطير متناً لقصائهم ، بقدر ما كان لشعرهم مساراً تنبثق منه أسطورتهم الخاصّة. أسطورة المكان ومكوّناته ، والتاريخ وما حفل به من مطبات وحفر . وضعوا لمجريات وجودهم أحقية انبثاق الأسطورة الذاتية التي عبّرت عن وجود منتهك ( أسطرة الواقع ) وهذا أيضاً قرّبهم من الحس الفلسفي إزاء حراك يجدوه محفّزاً لرؤيتهم الفلسفية ، فكان التعبير عن الوجود وعدمه ، وسؤال الحتمية والاحتمال ، ووضع الإنسان ضمن دائرة ضيّقة ومغلقة جرّاء تأثير قوى معلنة وخفية . كل هذا بلوّر رؤاهم الفلسفية ، ووضعها موّضع الحراك الشعري بعفوية متناهية .، فكان لـ (سعدي يوسف ومصطفى عبد الله ) معجمهم الأسطوري . والأسطورة كما هو معروف تتصل بالفلسفة من باب انشدادها للكوّن وتفسيره ، والوجود وتواصل حراكه . كما هو معجم السيّاب الذي  استدعى الأسطورة من متنها الأممي إلى قصائده ، غير أن موقفه الشعري انتبه إلى ما جرى للشعر ، فترك لنا ( أنشودة المطر ، المومس العمياء ، شنغهاي ) وغيرهما ، لتؤسس أسطورة شعر السيّاب , كما فعل ( عبد الوهاب البياتي) في قصيدة ( المفتاح) مثلاً ليواكب حفرياته في واقع ينتج أسطورته يومياً . والشاعر ( نّصار) كما سنـاتي على ذلك قد أدرج أسطورته عبر ما كتبه من شعر بروح تلقائية دفعته مباشرة وبقوة إلى الأسئلة الفلسفية . .

العتبات ودلالاتها /

لقد ابتدأ الشاعر منذ العتبة الأولى وهو العنوان الرئيسي ( الحياة في غلطتها) وهو عنوان يرتبط بالجذور الأولى للوجود البشري ، أو الخطيئة الأولى . فالأغلاط التي وقعت فيها الحياة ، كان بفعل التراكم الكمي ، الذي أدى إلى تراكم نوعي ، ناءت  بحمله البشرية . فالنتائج تُقاس أسطورياً بالسوابق . فهو القائل ( في غلطتها) وليس (في خطيئتها ) ولهذا دلالات كبيرة ، تنحصر في الخطيئة الأولى التي أرادت لها ( حوّاء) مرمى ، وعارضها ( آدم) استرخاء . الغلطة التي أنتجت أزمنة مرّة كامنة في التقاء جسديهما ، لينتجا ( قابيل وهابيل) ومعروف ما حدث بعد ذلك بشهادة ( الغراب) الذي علّم البشرية ؛ كيف تواري سوءاتها . ومن سوءاتها صناعة الحروب وهتك الأجساد ، ومصادرة حقوق الآخر ، وإذاقة المرارة من قبل الأخوّة الأعداء .كان هذا ما يحفل به شعر ( نصّار) تماماً . لذا فأننا ننظر إلى العتبة هذا لنستقرئ عتبة لوّحة الغلاف التي أنتجها الفنان ( جمال الأبطح) حيث برّز صورة القتل لايداع الجسد باطن الأرض ، وظهور الرأس متطلعاً إلى الفضاء ، بعيون مغمضة اقتضتها البنية الفنية للتصميم ، لكن الأكثر بلاغة في الرأس ، هو إزارلة غطاءه الأعلى وتفريغ محتوى مجموعة العقل والتبصّر. وهذا دليل لنا على أن الفنان قد قرأ قصائد الديوان قبل التصميم . فجريمة القتل استهدفت الرأس باعتباره المركز. لذا فقد تلازمت العتبتان في تحقيق شفرة تطل على المعنى الكامن في قصائد الديوان .  أما العتبة الثالثة ، فقد استعان بحكمة توراتية منسوبة إلى الملك سليمان . هذه الحكمة تخبئ المعنى الصالح لكل الأزمنة . لذا كانت الاستعانة بها للتعبير عما جرى .وهي تتمحوّر على الحقيقي باعتباره الدال على الحقيقة زماناً ومكاناً . ولعل نسخة شبيهة للحقيقي ، والتي قالت الحكمة عنها ؛ بأنها لا تُخفي الحقيقي. مقابل نعت الحقيقي ، أي فاعله هو الذي يُخفي الحقيقي ، بأن وجوده . سواء النسبي أو المطلق . بينما ينعت النسخة الشبيه هي الحقيقة ، وليست خافية له . هذه  الفلسفة تعبّر عن صورة ناصعة لما جرى في الحقب التي كتبت إبانه قصائد الديوان .أما التسلسل التصاعدي للقصائد ، (نسخة ثالثة / نسخة ثانية / نسخة أولى) فقد أريد لها التصعيد وفق ما نقرأه . فالرؤى المتعلقة بالنسخ الثلاث كمدوّنة لما جرى ، كانت أكثر تخفيفاً وعرضاً  ، قد لا تختلف في بنيتها العامّة ، غير أنها تتباين في بنيتها الخاصة وفي رؤى الشاعر ، وتيهه في لا معنى الواقع وتقلّبه السلبي .وقد وضع الشاعر من خلال شفرات الحروف معنى آخر لخّص وجع القصائد وصيرورتها في ( ز+ ع+ ي+ م= زعيم و( ح + ا + ئ + ر = حائر ) وهي شفرة طرح من خلالها ومن حراك القصائد حيّرة وسؤال الشاعر باستمرار .

الإحساس بوّقع الزمن /

لعل أهم ما يواجه الشاعر هو الإحساس بوّقع الزمن على وجوده . لأنه زمن مزدحم بالمفارقات ومجموع الأخطاء ، وخطأها لن يكن  وجوده بهذه الصفة من خلال وجهة نظر الشاعر ، بقدر ما يحتكم النوع هذا إلى الزمن والتاريخ وما يحمله من مفارقات . فجدلية ذهن الشاعر ، قادرة على فرز مثل هذه الهنّات في التاريخ المعاش . كذلك تشكيل موّقف منه . والشاعر له خطابه المركزي في حياته المعرفية وهو الشعر . لذا نجد أن مجمل رؤى الشاعر ( نصّار) تحتكم إلى مثل هذه الصدمة مع التاريخ . سواء كان تاريخه الفردي عبر إحساسه بقرب المأساة والضرر ، أو من خلال تاريخ الجماعة . وهنا يتجسّد الخراب العام في صدارة ما يجده الشاعر أكثر وجوداً ، بما تركه الزمن من أثر سلبي على الواقع . فهو على تجاذب ، بين ما هو ماثل في الواقع ، وبما يُحدّثه التاريخ ، كذلك بما يدركه بحاسته الشاعرية بخاصة والإنسانية بعامة . الشاعر هنا يدرك خطورة ما جرى وما يجري . لذا نجده يحاول تشكيل أساسيات أسطورته التي ينمّيها اليومي ، مشكلّاً وحداتها على مفارقات كنتائج . وهي مفارقات توسم الواقع ، ومنه المكان بالدرجة الأولى . فهو العنصر الأهم في تصوّر الأسطورة ، لأنه يشكل صيرورتها ومنبتها . ونقصد المكان . فالإنسان الأول خلق أسطورته معتمداً على المكان( الكهف ، المغارة) لذا كان نسله من تراتب أساطيره ومعتقداته ، مستنبتة من المكان . فهو الدافع الأساس لخلق المفاهيم والرؤى . فحين يستهل قصائده في عنوان ( حياة على جانب النهر) إنما يبدأ من نقطة الأسطورة ، التي تحتفي بالمياه ومجراها ، والضفاف وسكونها وخلقها للدعة والأمان . لذا نجده يبدأ بتشخيص الخطأ بعبارة سردية بحتة . لكنها ذات مكوّن شعري :

{ على الأرجح السنوات التي مرّت في الطريق ، المعلقة فوق الهاوية }

هذا السرد يتوسل بالنتائج ( الهاوية ) فهو توصيف خالص القصد . بعدها يصفها في كوّنها ( محشوّة بالأخطاء ) وهنا استبدل مفردة ( غلطة ) بـ ( الخطأ) لأن الأولى تؤدي إلى الثانية . وهذا ما أكدناه في استهلال الدراسة . من أن الخطيئة الأولى ، ولّدت جملة أخطاء ، شكّلت بنية التاريخ ، الذي انوّجد على قطبي ( الخير والشر) والشاعر هنا يؤكد على المؤثر الأول والأساسي ، وهو الحروب . وأذكر الحروب جمعاً ، لأنها ما توالت على المشهد العراقي ، وما خلقته من أجيال اكتوّت بنيرانها . ولكي يعبّر عن هذا بشعرية خالصة ذكر :

{ ربّما اخترعتني شاهداً/ عنى حروب لن تنتهي / عن رحلة لعابرين ذهبوا

   لمينة ضائعة/ عن معارك دينية يمقتها الله / عن ثورات آمنت بالخرافة /

   عن حكاية يختلط فيها الواقع والخيال / العقل والجنون/ الصورة والحدث }

هذه الجُمل الشعرية لخّصت الأزمنة والظواهر التي أنتجتها . والشاعر هنا يسأل بحيرة متمكّنة في فك اشتباك صوّرها . فسؤاله ( ما هذه الغلطة؟) يقود إلى ( على الأرجح ستبقى حياتي مثل عجلة تدورُ، تدورُ ، تدورُ حتى أضع حدّاً لها }

ويواصل طرح السيرة  ، سواء كانت ما يخص الذات ، أو صورة الواقع متمثلاً المدن ، الغارقة بالدم والوحشة والفقدان . فهو شاعر تزدحم في قصائده صوّر الدمار ، لتنتج وتبلوّر أمثولة ملخصة وجامعة لمجمل هذه النتائج بسبب خطيئة الوجود . فالخلط بين ( الخطأ والغلط) هنا ؛ هو التباس بين السماوي والأرضي . ولعل نثر الصوّر المتلاحقة ، أدلة على ما يبوح به الشاعر عن مشهد الحياة ، على نحو :

    ــ ( كيف يعبرهم والمخالب تحيطه من كل مكان ؟)

    ــ ( ممرات  تدور به )

    ــ (من ممر إلى ممر)

    ــ (يمشي من دون وميض )

    ــ ( لامن دار إلى دار)

    ــ ( أتلف أيامه )

    ــ ( سقط في التيه )

    ــ ( لكنه لا يرى أحداً )

هذه الرؤى تقود بطبيعة الحال إلى منطق الفلسفة ، التي تلّح عن الوجود . والتيه هنا خير دليل على التباس الرؤى . أي الضياع في الوجود .  فجدلية وجود الذات ( الأنا ) هنا محكومة بجدلية الحياة . ولعل تكرار الخطأ ( الغلط) خير دليل على انبثاق الأسئلة ، لأن الذات تواجه الواقع الخرَب برؤى شعرية . فالشاعر يؤسس لخارطة مدينة ، ليست وهمية ، بل شكّلها الشعر ، فهو ما يؤسس على مؤسَس :

{ أخرج من المدينة التي كانت حياتها أشبه بلافتة حرب غامضة / أهيم / أهيم }

هذا الضياع كان قد تأسس على مفارقة تخص المدينة ، بل المُدن . وبديلها من الوجهة الفلسفية الرديف ( الصحراء ) لذا نجده ينزع إليها في ( أدير ظهري للصحراء ) و ( أحصي أفاعيها ) لكنه يخضع للمرويات في ( قالوا ... وقالوا ) و ( لم نكن قادرين على الخلاص ) هذه الخلاصات أوجدها الواقع المدمّر ، في المدن التي طالتها الحرب ، المدن التي وجدت نفسها وسط فيض مزوّر من الادعاء والكذب في كل الأزمنة .

إن الشاعر يُلخص  رؤيته وفق اعتبارات أخلاقية ، رأها مقياس وجوده المادي والمعنوي :

{ كرهت الأيام / أقفلت الأبواب / ورميّت مكتبتي إلى النار / كرهت الأشياء/

   المعارك والطواغيت / السجون / الممثلين والمدّاحين / القريب والبعيد /

    يا  لعذاب التكرار / ما هذه الغلطة ؟}

فقد حمّل الخطيئة الأولى كل العبء ، لأنها أنتجت مجموعة أغلاط على مرّ التاريخ و الحُقب . ولعل المبنى الفلسفي الذي ذكرنا ينطوي على مجموعة أبيات  تتداول مفردة ( القيثارة) باعتبارها آلية الشاعر الحسّية ، ومنظاره الذي يكشف من خلاله واقع العالم ، سلباً أو إيجاباً :

{ لم أهمل النظر إلى قيثارتي / لهذا فكّرت فيَّ طويلاً / وفاجأتني بالكلام }

{ قلبي يقوى على التحليق / صقر جائع ينهش كبد الغيّب }

{ في كل ليل أسمع لحنها / أطوي الأشرعة / وأندفع في أعماقها / أعماقها ظلام / لأشرب الصوّت}

{ قيثارتي وأنغامها في مدّرة أخرى / فلماذا  لا أنثر روحي على الكوّن ؟/

    وأهيم من أين .. إلى أين }

سؤال موّجب ، بعد أن كان لليل متسع لرؤية ما يدور حوّله . فالشاعر موّلع بتوسيع فرشته الشعرية ، حيث تستطيع  رؤاه ، بحيث تمكّنه من ايراد ما يتوجب أولا يتوجب . فالذهن الشعري أو العقل الشعري كما يصفه الشاعر ( خزعل الماجدي) أكثر حيوية عند ( نصّار) فما كان منه إلا توسيع دائرة الممكن من الرؤى الشعرية المتمكّنة من كشف المسكوت عنه ، أو ملامسة السائد المتسلط . هذه الرؤى احتشدت على صورة المدينة التي أحَّب ، والتي هي العلامة البارزة في قصائده . وهي أيضاً من وحّد مساحة أرجائها في وحدة شعرية ذات كشوفات ورؤى متعددة . فالمدينة هي الحلم المستل من الواقع المغيّبة منه عنصر الجمال  . وهي المكان المعزز بالشعر وحده . إذ يصف وقفة ضميره الشعري :

{ يقف في الطريق أمام مدينة الشك /فوق غيومها يرى نجوماً صارخة ،

  بلا أمل يقف طويلاً أمام لهيبها / يملي أحلامه علة نفذة في شوارع اللغة }

ويتواصل في كشف ما يراه و يتصوّره عن المدينة ، راصداً المتغيّرات رامز لمعناه ما تجود به الطبيعة من عواصف سوّداء . حتى يصل إلى قناعة يؤكد من خلالها الصوّت الذي يُحب :

{ سيبني قرية في كأس الجنون / ويرى أوتار قيثارة لفتيان يخرجون من

                      نهر الغرّف إلى الصحراء }

 ومن خلال هذا التصوّر ، يحقق ما يتوجب الوصول إليه . وهو الرؤى الأسطورية للمكان . إن خلاصة الرؤى ، إزاء نكسة الواقع واسوّداد مجالاته ، يدفع المبدع إلى التوّسل بالأسطورة ، ففيها ملاذ شعري وسردي ، قادر على أن يحمي ذات المنتج للنص من مصدّات جنون الواقع وخطله :

{ في طريقه إلى قرية عميان / أخرسها زحف كبير /كنت المرأة في قلبه / والذهول في حياته / حكاية سوّداء / تقود عنقه إلى حفرة في وادي لسلام }

ثم يقفل الرؤى ، لا بحساب الخذلان ، قدر ما يدفع لتجديد رؤاه . لأنه في صراع جدلي مع مكوّناته النقيضة مع ما تداولته الذات :

{ هي حياتي في غلطتها / عثرة للتيه / عثرة للموّجة الشاملة / عثرة لحليب

   الأرض /عثرة للزحف الكبير/ عثرة ضد القطيع الحائر/ عثرة لملح

     السماء الغامض / الذي  فسد وسكت / عثرة العاصفة سوّداء}

فهو كشاعر ، لا يقف إلا ومتسع التداول الرؤيوي متواصل معه . فبرؤى سياسية غير مباشرة ، يعود لمعالجة ما سبق ، ولكن بأكثر وقعاً للحس المترتب جرّاء الغلطة التي نعتها وكرره مراراً :

{ الكراسي تتحدث عن الوعود / التي ليس لها لهب سوى الموّت/ ولأن الأرملة في هذا العالم لم تكن هناك / الكراسي تجلس فوّق الرؤوس وتهذي عن الأسى الشاهق / وتجاعيد الحلم الذي يُعانق العميّان}

هذه الثيمة فيها ضوء تنبؤي كما أرى ، فد شكّلت بنيت من تداعي الصوّر المعاش في الحياة . ، والصوّر التي سوف تأتي . وهي رؤى قارّة ينتجها وعي الصراع وعن ماذا يُسفر مستقبلاً . لأن التردي في البنى مجتمعة ، لا ينقذه قرار سياسي ، بقدر ما تتحكم فيه قرارات وتطبيقات وتشكّلات جديدة .

الشعر والتاريخ /

السؤال الملّح : هل يمكن فصل الشعر عن التاريخ ؟ والجواب بكل بساطة : من غير الممكن تحقيق هذا . ودليلنا الملموس الآن وفي غيره . فالشاعر ( نصّار)  يقترب من التاريخ ، بقدر ما ينغمس فيه . ففي معالجة قصائده وعلاقتها بالبنية الفلسفية  وبالتالي الأسطورية ؛ فأننا إنما حذونا مع ما أنتجه من قيّم عابرة لمفصل التاريخ . فقصائده عبارة عن مدوّنات برؤى شعرية . فصوّره منتَجة من طبيعة المجريات في حقب سابقة . وتجسيده لمفاصل الوجود من خلال فعل تعرية وكشف لما هو جاري في الواقع . ناهيك عن تاريخ المُدن ، والمدينة الفاضلة التي هي حلم الشاعر . المدينة المنزوع عنها التسلط والقهر والمحو والمصادرة لحقوق الفرد والجماعة . وثمة عيّنات كثيرة تؤشر مثل هذه العلاقة بين الشعر والتاريخ . غير أن الشاعر في هذا المجال لم يُغلب السردي على الشعري . أي لا يمنح الوثيقة حضوراً يُطغي على شعرية الصورة المتحققة شعرياً وهي تستلهم الواقعة . إن الشعر والشعرية يبقيان سمة ما يكتب ( نصّار) :

{ فاض دم واختنق الهواء /جثث طافية }

{ مررت بأناس / رؤوسهم في الظلام بيض / صعدت إلى المئذنة /

   لا أحد معي / الصقور حلّقت فوقي / أرعبتني العاصفة }

{ انهمرت من قلب السماء كرت اللهب / جدرن أبيدت / لهب / لهب تقذفه

   الصقور/ تنفلق لمدينة / اشتعلت رؤوس الأطفال / ........ / الحياة زلّة

   لسان / والسماء غلطة الأرض لا أكثر ول أقل}

{ أوراق كثيرة تطير إلى وادي السلام }

{ أسماء أهله خوذاً على ضفاف النهر / وهي تقول : الصمت زلّة الكلام

   /لا أكثر ولا أقل }

{ بغداد بين خاتمتين / الموت وفاتحة الكتب }

{ ذكرى حياة زائلة / في الخرائب امرأة مغتصبة / بغدد خرائب متجاورة }

{ وسارت إلى ودي السلم / ماذا تقول ؟ / كتاب أسوّد معلق في الفر الثقيل /

    فصوله القتل والجوع والخوف }

هذه العيّنات من الشعر ، لا تحتاج إلى تعليق أو شرح وتأويل ؛ فهي مكتفية بصوّرها وتشكلاته ، التي قدّ    مت سيرة دامية للحقب التي مرت بها البلاد ، حيث توّضح تاريخه في كوّنه معمد بالقتل وشيوع سقوط الدم في الزوايا ومساحات الشوارع ، والأقبية السرية .. إن شعر ( نصّار) في هذا المجال ، ذي تكوينات مركّبة من أحداث دامية ومفجعة . أنتجها وارتقى بها الشاعر نحو منصّة الشعر ، التي هي أكثر دفئاً وأمانة لتاريخها ، لا أقلام بعض المؤرخين الممسوسين بحب التلفيق .

البلاد والحس الذاتي /

في ما ساقه من توالي شعري ، سجّل من خلاله أحاسيسه إزاء مرئيات وجدها أكثر تشابكاً من نواحي كثيرة . فهي سالبة لإرادة الفرد ، ومصادرة لحقوق الجماعة . كثيرة الضغط . مقابل هذا التوّفر على الحس الوطني ، الذي يتخذ له عند الشاعر كثافة من المشاعر اتجاه الوطن ، متمثلاً في المدينة ، ثم البلاد , وهي مفردة تقود إلى كثافة من الصوّر . فهي مرتبطة بالواقع من جهة ، وبتشابك الأخيّلة من جهة أخرى. فحين يخاطب البلاد لتي يُحب ، نجده يُعدد محاسنها وصفاتها الطيبة :

{ وجدتك فتجلت أسماؤك / وجدت الماحي يُغطيك بغيمة / يدثرك ويدوّن

              برقك / يدوّن عدم الأشخاص / شخصاً .. شخصاً }

لكنه وهو يتماسّ مع رؤاه ، يحاول الإشارة إلى ما تعنيه عنده البلاد :

{ كأنه يكتب مصيره ويمحوه / وبخوف يتفوّه : لا تزالين تمضين في روحي }

ويسأل بمرارة العاشق :

{ متى تكفين الموّت عن حياتي / عن بلادي ؟ }

هذه المشاعر يعيد الشاعر صياغتها  بنَفَس شعري متجدد ، لا يتغلب عليه سوى المحبة للوطن ، والإحساس بما وصل إليه من دمار . فقد دمج الشاعر بين الوطني والحس الشعري وفق أسلوبه الشعري ، الذي  يُغلب الشعري على الرؤى السطحية المتعاملة مع المرئي دون الحسّي . فخطابه ينطوي عن شعرنة الموّقف الوطني :

{هي كيس من الحروف / بلادي / بلادي بأحجارها / وأشجارها / وحيواناتها/

  وأنهارها / عالمها / وترابها / وحارسها / بلادي حملتها على كتفي ومضيت }

صورة الخطيئة /

في النسخة الثانية يُعيد الإحساس بذنب الخطيئة الأولى . كما لو أنه يزاوج بين خطيئتين . فحين تشتد خطيئة الحاضر ، وهي الغلطة كما يصفها ، تنهض الخطيئة الأولى كجذر يوّلّد صوّر أخرى . هذه المداولة الشعرية ، تستند إلى الأسطوري منه إلى الواقعي . وبهذا يعبر الشعر من موّضعه التداولي الحواري ، إلى تداول فلسفي وجودي . فنبرة الخطاب الشعري فيها نوع من المراجعة ، واستعادة موّاقف في موّف ضاغط على وجود الإنسان جرّاء الخراب العام للبنيات الأساسية في الوجود . لذا نجده يُخاطب انثاه ، مركز خطيئته الأولى :

{ لأنك نهاري وأنت النوّم كله / ولأنك واحدة من أضلاعي / ولأنك تفاحة النور التي وراء الغمام / كنت عرياناً قبل أن تجلبي إليّ الحيّة /........../ عرفت بك كل شيء / وهمت ولم أنسَ ......... / حوادث عجيبة / لا نعرفها / أنتِ التهمتِ/ نصف حياتي واحترت/ الحيّرة خلاصة الموجود }

ولنراقب هذه الجُمل الشعرية ، التي تنثال معبّرة عن الخطيئة الأشد لذة على الإنسان . فحين يصف المرأة ( حوّاء) بأكبر الصفات التي تروق لها ، ولا تترك سوى خاصية لدى الرجل ( آدم) فأنه يهيئ لمرمى آخر . وهو الخراب الذي خلّفته التفاحة ( تفاحة النور) كما يصفها . وهي فعلاً كانت النور الذي اهتدى اثره وانفتح على العالم . ولعل ( كنت عرياناً ) تُشير إلى طفولة الحياة . فهو قد واجه انكشاف الوجود بورق الشجر كما تقول الأسطورة ، فالعُري يعني بواكير المعرفة ، ومحدودية مداولتها كفعل مؤثر . وهو الذي أدى إلى مضافة الخطيئة بخطيئة أخرى ( قتال قابيل وهابيل ) والذي رمز له بـ ( تجلبي إليّ الحيّة) وهنا لا بد من التدقيق بـ ( تجلبي إليّ) وليس تجلبي الحيّة فقط . فإليّ تعني القصدية . فهي نفس الحيّة التي سلبت عشبة الخلود من ( جلجامش ) وهي رمز الأنوثة وسلطتها . وبهذا كان القول جلبتي لي الهيّمنة . ثم يتواصل بهذه المعرفة بتسلسل تاريخي ، انتظم على شكل رؤى شعرية ، كان ملخصها في التهام نصف حياة الرجل على مر الأزمنة . الخطيئة هنا مركبة ، ومتواصلة عبرها . لذا كان مسوّغاً مخاطبتها بأسلوب في مواربة :

{ ولأننا نصفان لحياة واحدة / صرنا نحلم بحياة أخرى  /   أنت غلطة

   العمر/ بك خرجت من جنة العميان / تحررت / تحررت من ذلك العماء /

                        هربت حتى لا يراني أحد }

ضمن هذا السياق الشعري ، نجده يتناول أكثر من موّضوعة وفق سياق الخليقة والخطيئة . فإقراره الانتماء إلى ( حوّاء) لأنها من ضلعه السائب ، كما قالت الأسطورة ، وكما نبه إيه في السياق الشعري آنفاً ، لذا أقّر أيضاً شرعية البحث تضامناً معها. فهو يقر بأنها غلطة العمر ، عابر  بوجودها إلى رمز لحقيقة أخرى بالتأكيد . فقد صار التحقيق حلماً . ولعله يقر على مضض ، بأن ما غادره من فردوس هو ( جنة العميّان) وادعائه بـ ( تحررت) فأنه في السياق العام ، أي المعنى الباطن في الآخر الظاهر ، كان يتسلق سلّم الهروب ، وفق اقراره بهذا الفعل . إن القلق الذي يراوده ، اطار لازمة حياتية ، تنبئ بالصراع الدائم في الوجود . ولأن ذهن الشاعر يحاول أن يتداول منطق الفلسفة في ما هو واقعي قائم على الحتمية في الوجود ، فأنه أيضاً يتخذ موّقفاً لصياغة وجوده في :

{ نعم أكلته / فعلته / وسأفعلها وما ندمت / من قمحه اقتربت / بها احترت / احترت من شجر إلى شجر / ومن حفرة إلى حفرة أطاردها / أطاردها حتى طُردت ......../ ولأننا نصفان لحياة وحدة / ...../ صرنا   ...../ نهر مفتوح / كتاب الحياة }

 { شدّها لأحلامه اسم سحر قديم / لم يصل إلى العشبة/ ولا إلى بيت من الطين

  تغطيه الأشجار /  خاطوا له عينين / جروح عميقة في مرآته  /  لم يرم من

  قوّسه برقاً / محبرة الشك في دمه تفيض}

إن الحيّرة التي تلبست ضمير نموذجه ، تواصلت على صوّغ جدلية الوجود . فمعظم ما رأى يستمر جدلها . فالصراع الذاتي والموّضوعي لم ينته بعد ، ما زال ثمة إنسان يعيش وسط بؤر الوجود ، يُقلّب الأشياء ، ليخلق مزاجاً / قد لا ينتهي البحث عنه . فالشاعر في هذا الضرب من الجدل الوجودي ، نجده يستشرف شيء من جوانب هذا الصراع ، الذي غدا الجزء المكمل لمعنى الوجود على الأرض ، بعد مغادرة الفردوس بتناول تفاحة المعرفة :

{ هل نُهبت دلالة التفاحة؟/ من يعصر قلبها بين قوسين ؟/ ربم تستلقي في المشحوف / زتقرا الكتاب للسائح الأعمى / هل أسيء قصدها ؟/ هل هو البئر في الوصول إليه؟ تارخنا ورق ومحبرة وعميان / كم قيثارة أحرقه لحب ؟ هل وصلتم إلى غبارها أيها العابرون ؟}

في النسخة الأولى ؛ التي هي أولى الافتتاح ، كان البوح بها متأخراً كما أراد الشاعر ، لكنه بوح متقدم . لأن السياق في النسختين ، قد أشعل حرائق الوجود . وما النسخة الأولى المؤجلة ، سوى عتبة العتبات في كشف الرؤى الفلسفية ، ومنطق الجدلية في الوجود . لأنها نسخة تبوح بمنطق الوجود المشوّه ، والإحساس المكثف، الذي يحمل كبرياء قائلها :

{ البياض تكرسه الأبدية / السوّاد يكرسه الزوال / في جادة الحياة تجتذبه /

   رأس الملك يتبعثر /........../ الحياة في غلطتها : سقطت في البئر /

    في الطريق جثث مجهولة}

 هكذا يتواصل ، حتى يُدرك :

{ لاحظت أن الشمعة الوحيدة تسيل فضتها خلف السوّاد }

أو :

{ جثث مجهولة وراء البيوت / سنسير بها في الطريق إلى وادي السلام /

    ........ /........../ في وادي السلام / وتحته نيام بلا أجنحة ولا حرب /

الأبدية يُكرسها السوّاد / الزوال يُكرسه البياض }

ولعل عبارة ( ماذا سأقول ) تفتح الباب الجدلي على مصراعيه أمام الشاعر . لكنها لا تُلخص في معنى واحد ، يكاد يُطغي على منطق الحياة زماناً ومكاناً :

{ من ينقذنا ؟/ هناك ألاز القبور تنتشي / هناك الهائمون يخفيهم القش / وقلبي الذي صر رماداً / أكياس الأطراف المبتورة تتعفن قربي / ....... / ....... م سأهوي إلى وادي السلام / سأهوي طويلاً مع اللعبة / إنه جبل قديم تحمله حياتي / يمشي معي / يلعب / يلهو بمصيري }

لقد كان مسار الشعر ينطوي على نوع من التنقيب والحفر في الذات . أستطيع أن أؤكد أن الشاعر يحسب بدقة تداعياته الشعرية . فهو يُخضعها إلى كشف الرؤى والاتكاء على منطق فلسفي جدلي ، استطاع من خلاله أن يُقدم فرشة شعرية ، كرّست محتواها من أجل كشف المستور والمرئي ، وتحقيق التمازج العضوي بين ما كان وما هو كائن بروح الشعر وليس بغيره . وحسبي أننا استطعنا أن نتعامل ما كان أكثر إثارة لحسّنا في التلقي . لا شك أن قصائد الديوان تنطوي على مداولات أخرى ، تراها العين الأخرى ، وتُجدد مسارها القراءات الهادئة المتبصرة . لأن الشعر هنا متراص العبارة من حيث كشف المعنى ، وتراصّ السطور الشعرية بشكل ملفت للنظر . أو على الأقل يؤثر على التلقي ويُثيره في آن واحد .

                ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زعيم نصّار/ الحياة في غلطتها الروّسم 2015/ دار

 

 

 

 

                  

 

 

 

 

 

 


مشاهدات 60
الكاتب جاسم عاصي
أضيف 2025/05/06 - 4:26 PM
آخر تحديث 2025/05/07 - 5:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 269 الشهر 7653 الكلي 11001657
الوقت الآن
الأربعاء 2025/5/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير