قراءة فلسفية بأعمال سلام جبار
اللافتة التهكميّة في التشكيل العراقي
قيس عيسى
تمثل أعمال الفنان العراقي سلام جبار صرخة بصرية تنتمي إلى فن الاحتجاج، لا بوصفه فعلاً آنياً، بل كموقف جمالي – فلسفي يستدعي الذاكرة الجماعية، ويعيد مُساءلة الواقع من خلال إعادة بناء الشكل الواقعي بطريقة تهكميّة، تُحمّل كل تكوين بصري عبء الأسئلة الكبرى. إن هذا الاشتغال لا ينفصل عن تقاليد النقد الاجتماعي والسياسي، لكنه يتجاوزها بآلية فنية تمزج بين السردية البصرية والتحوير الرمزي للشكل.
*أولاً: طاقة السرد بوصفها فعل تفكيك:-السرد عند الفنان سلام جبار لا يُستدعى من باب الحنين، بل بوصفه بنية تفكيكية تُفرغ التاريخ من قداسته، وتُعيد ترتيبه كمشهد يومي مُتكرر، هزلي أحياناً، وعبثي دائماً. ففي لوحاته، تتحول الشخصيات إلى كائنات (سردية / رمزية)، تحكي سقوط النظام الرمزي الذي نعيش فيه. تتجاور الرموز السياسية مع البيروقراطية، الأجساد المُنهكة مع الأرائك الفارغة، الطُغاة مع المُهمشين، في سردية فوضوية لكنها شديدة التنظيم.
*ثانياً: التهكم كاستراتيجية جمالية:-التهكم في أعماله ليس أسلوباً، بل بنية فكرية. إنه يقوّض كل ما هو مألوف، ليعيد بناء الواقع بوصفه نصاً زائفاً، علينا أن نُعيد قراءته. هذا التهكم لا يخلو من حزن، بل هو تهكم وجودي، يذكّرنا بقول (باختين) (إن الكرنفال هو لحظة الحقيقة في التاريخ). الفنان (سلام جبار) يخلق كرنفالات بصرية، تنقلب فيها مقاييس العقل، وتتم مُساءلة كل سلطة: سياسية، دينية، ثقافية، وحتى جمالية.
*ثالثاً: تحوير الشكل في خدمة المجابهة:-الأجساد عنده تُطوّع، تُفرّغ، تُحشر، تُكدّس. الأشياء تتكدس كما تُكدّس الأحلام المؤجلة. ليست لوحاتهِ توثيقاً بقدر ما هي فضاءات تأملية تحتفي بالمأساة، لكن لا تُحوّلها إلى أسطورة. هنا، كل شكل واقعي يُعاد تحويره، ليكتسب طابعاً سوريالياً، هو أقرب إلى الكابوس الجماعي الذي نحياه.
(الكرسي الفارغ، القطار العابر، الأوراق المتطايرة، الكتب المتناثرة، القناع، الباب المائل)، هي عناصر تتكرر، لكنها لا تتكرر إلا لتكشف عن هشاشة الواقع وثقل الذاكرة. فكل لوحة تُعِد تشكيل المادة البصرية، بوصفها مادة نقدية، وليس فقط تشكيلية.
*رابعاً: المجابهة بوصفها فلسفة الفن:-سلام جبار لا يصنع جمالاً بالمعنى التقليدي، بل يصنع مُجابهة فكرية – بصرية. هو لا يحتفي بالماضي ولا يُجمّل الحاضر، بل يُفجر فينا الدهشة الباردة التي تدفعنا إلى التفكير. أعماله أشبه بـ”لافتات احتجاج” لكنـــها لا تُوجه فقط للخارج، بل للذات، للمُجتمع، للوعي الذي رضخ، وللمخيال الذي انطفأ.هذا النمـــــــــط من الفن يُقارب مقولات (تيـــــــودور أدورنو) في أن (الفن لا يمكن أن يكون إلا احتجاجًا صامتًا)، ويــــقارب كذلك تصور (ريجيس دوبريه) للفن كأداة للمقاومة الرمزية.
*خاتمة:ينتمي الفنان سلام إلى تيار الفنانين الذين لا يرسمون اللوحة، بل يصوغونها كـ”موقف فلسفي” يتحدى الحواس ويوقظ العقل. إن إعادة بناء الشكل الواقعي لديه، ليست مُحاولة للتجميل أو التوثيق، بل لتفكيك النسق ذاته. ومن هنا، يمكن القول إن أعماله تُعيد للفن دوره الحقيقي: أن يكون شاهداً ومُدانا في الوقت ذاته. ومن هنا جاءت فكرة (الاحتجاج الصامت) أو الفن الذي يصدم ويوقظ الضمير، بدلاً من أن يُريح العين أو يُرضي الذوق. إن الفنان (د. سلام جبار) يستدعي موقف (أدورنو)،
فأن اعماله تُمارس فناً واعياً لجراح الانسان، ساخطاً على التأريخ، ورافضاً للصمت، يُعيد للوحة وظيفتها كمُجابهة فكريـــــة وليست تزويقاً بصــــــريا.