بين مطرقة البطالة وسندان الإهمال
نهلة الدراجي
في العراق، لا يحمل عيد العمال سوى طابع رمزي باهت، لا تلتقطه كاميرات الاحتفاء، بل توثّقه ملامح التعب والإرهاق وقطرات العرق على جبين العامل و أنينه، الذي لا يعرف ما إذا كان سيظل في عمله غداً أم يُستبدل بلا إنذار. لم يعد عيد العمال في العراق مناسبة يُحتفى بها كما ينبغي، ولا لحظة اعتراف عادلة بدور الإنسان الكادح الذي ما زال يحمل على كتفيه ثقل الحروب والنزاعات، وتبعات الفساد وسوء الإدارة، وتراكمات القوانين الغائبة أو المعطلة. بل تحوّل هذا اليوم، بمرور الوقت، إلى مناسبة حزينة لاستذكار الخيبات والتذكير بالمطالب التي لا تجد من يستمع إليها، ولا من يسعى لتحقيقها. ففي بلد يواجه أزمات اقتصادية مزمنة، وبُنى تحتية متآكلة، وسوق عمل غير منظم، يظل العامل الحلقة الأضعف في سلسلة الإنتاج، حيث يعاني العمال من غياب الضمانات الوظيفية، وحرمانهم من التقاعد، وانعدام التأمين الصحي، وتدني الحد الأدنى للأجور إلى مستويات لا تليق بكرامة الإنسان. إن المفارقة المؤلمة تكمن في أنّ العراق، الذي أنجبت حضاراته الأولى مفاهيم العمل والإنتاج، لا يزال عاجزاً عن ضمان أبسط حقوق من يبنون حاضره بأيديهم. فالعامل العراقي لا يطلب امتيازات خاصة، بل يطالب بما هو من صميم العدالة الاجتماعية: أجر عادل، بيئة عمل آمنة، قانون عمل يحميه، ونقابة تمثله بحق.
ذكاء اصطناعي
لقد بُنيت أسس الحضارات الأولى على سواعد العمّال، الذين حرثوا الأرض، وشيدوا المعابد، وحفروا الأنهار، وصنعوا أدوات الحياة الأولى. ومن عرقهم، نشأت المدن، وتفتّحت الأفكار، وبدأت البشرية رحلتها الطويلة نحو التمدّن والمعرفة. واليوم، في زمن التطور الرقمي والذكاء الاصطناعي، يبقى العامل هو الجوهر الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه يمثل فعل الإنتاج في أنقى صوره، وكرامة الإنسان في أنبل تجلياتها. إن غياب الإصلاحات الجذرية في قوانين العمل، واستمرار الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي، يطرحان سؤالاً مؤرقاً: ما قيمة الاحتفال بعيد العمال في بلد لا يوفر حماية قانونية حقيقية للعامل؟ وأي معنى لهذا العيد إذا ظل العامل العراقي يواجه البطالة، وسوء المعاملة، ومخاطر العمل دون تأمين أو تعويض؟ إن العدالة الاجتماعية ليست شعاراً يُرفع في المناسبات، بل منهج عمل يتطلب إرادة سياسية وتشريعية حقيقية. ولا يمكن أن تنهض أمة دون أن تضع العامل، لا في مقدمة الشعارات، بل في قلب السياسات العامة وخطط التنمية. في عيد العمال، لا نملك إلا أن ننحني احتراماً لكل يد متعبة، لكل جبين عَرِق، لكل قلبٍ ما زال يؤمن أن العمل – رغم كل شيء – هو شرف الإنسان وسرّ وجوده. ومع ذلك، لا يكفي الانحناء، ولا تكفي الكلمات. ما يحتاجه العامل العراقي اليوم هو عدالة في التشريع، وإنصاف في الأجور، وكرامة في المهنة، ومستقبل لا يُبنى على الأوهام. فبالعامل تُبنى الأوطان، وبكرامته تُقاس إنسانية المجتمعات. ولا نهضة، ولا تنمية، ولا سلام، دون أن يكون للعـــــــــــامل فيها نصيبٌ عادل من الكرامة والحياة.