الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هذيان


هذيان

أحمد كاظم نصيف

 

منْ يراجع تفكيرنا القديم في المستقبل، يجد القيم الجمالية هي الشغل الشاغل في الوعي والادراك آنذاك، فكانت القيم تظفر بأكبر اهتمام في قضايا الناس الحيوية ومشكلاتهم الاجتماعية، بيد أننا وجدنا أنفسنا فريسة في شريعة العصا والحجارة، الخنجر والسيف، القذيفة والرصاصة، القنابل الذرية واليورانيوم، شريعة القتل الجماعي، غرق السفن والبواخر، الفيضانات والكوارث، تسونامي والرياح العاتية، سقوط الطائرات والأوبئة.

بالنتيجة كلها بصمات وإبهام، وإن اختلفت الطرق يبقى إبهام واحد أو أباهيم تتسلق حياتنا وتخنقها، تمتد مترامية نحو الشمال والجنوب، العزلة والصمت، الصراخ والضجيج، السلم والحرب، منذ الأب الأوّل حتّى، حتّى متى لا نعرف، هو الجواب المجهول الذي أرجوه من شبح يفسر لي ويوضح شكل "متى" هذا الظرف الزمني المجهول، ويشرح لي أيضاً موقفه مما حدث وسيحدث، وجهة نظره الشخصية، قلبه، ليته يكشف لي هذا القلب اللعين لأرى محتواه، هيأته، نواياه، قوته ضعفه، جبروته وخنوعه.

يبين لي كيف كانت بصمته على "هيروشيما"، هل للموت الجماعي بصمة واحدة أم بصمات بعدد المحروقين فيها؟

ضحايا الحرب العالمية الأولى، والثانية، هل كان إبهامه خصباً ندياً برائحة الموت؟

متى يكشف النقاب (عمَّن ولماذا وأين)؟ ربما اقتربنا من أل "متى" ولا نعلم، أظننا اقتربنا فعلاً.

جدب الأرض والموت جوعاً، أهذا معيار لمن له قلب فعلاً؟ الموت برصاصة أو قذيفة، أو سمّ، أهون بكثير من الموت جوعاً وعطشاً، الموت البطيء، جريمة كونية، هل لأطفال الجوع جرم كي يعاقبوا عليه بالموت جوعاً؟

إن كان بإمكانه حصاد البشرية كما يحصد الزارع حقله فعلام التعذيب جوعاً وعطشاً؟

أي قلب لدى هذا الشبح؟

إنني أهذي فعلاً، ربما لا علاقة له بهذياني، وربما هو شبح مجرد لشخص ما، يتألم مثلي ويملك معياراً من الإنسانية، ويقدر الذي أمر به الآن.

الإنسان حينما يطارده الضيق يهذي، وينظر إلى العالم من ثقب أبره.

الهبة الحقيقية للحياة الموت، أمر غريب فعلاً، مكافأة النور بالظلام.

العطور والألبسة الراقية، مساحيق التجميل والمجوهرات، العاري والمكتسي، مبيدات الحشرات الفتاكة بقتل مائة حشرة بنفخة واحدة، مقارنة غريبة فعلاً، صانع المجوهرات والمشتري واللابس ومبتكر المبيدات كلّهم ستأكلهم الحشرات والديدان.

أصحاب العروش والكروش، الممالك والجبروت، وبصمة واحدة تقلهم إلى الدود.

هبة كونية جعلت الحياة أمراً محظوراً على الجميع، ولا بدّ من إحالتهم إلى الدود، وكأنه يقول لنا، هذا الدود اللعين: وإن صنعتم المبيدات، مصيركم إليَّ، ابتكروا ما شئتم سألتهمكم كيفما أشاء.

الإنسان كائن غريب، يعقد عزمه على الرضا بواقعة، ثمّ لا يرضى حين يمتلك ما رجاه أو رغبة.

تتهافت الناس على شراء العقارات والأراضي، الذهب الملطخ بالدماء، العروش الفاجرة، الدمع المتهالك صبراً والأذرع المنهكة عملاً، كلّهم يشملهم الحظر.

الأصباح مليئة بالعواصف حين أفكر في وجهتها، والأيام جوقة تعزف الشخير.

الناس عجولون، يشترون ويبيعون، يبصقون على الأرض ويتنفسون أبخرة بصاقهم، لا أحد يسأل عن الوقت بين عرس وعزاء.

استطال الزمان أو قصر، غيَّر أسلوبه أو بقي عليه، يبقى للمكان سطوته وحضوره، المطاعم والأسواق، باعة الخضار والفاكهة، محلات بيع الملابس الجاهزة والأقمشة، الوليد والصبي والعجوز، النهود النافرة والأجساد الرشيقة، والممتلئة، الحماقة والحكمة، الخراف والحمير والجمال والخيل، الجميع في سفر مستديم.

وأنا، أنا من يبحث عنِّي بينهم، وعن شبح، وعلي أن أسأل وأجيب عن تساؤلاتي، لمَ أصبحت الناس وحوشاً بشرية؟

وحوش تأكل بعضها وتغرز الأصابع في الحنجرة، تدمَّر الحدود وتنتهك الأعراض، هل تشهد فاكهة آدم على إثم مبتـَكر؟

فاكهة واحدة غيرت مسيرة آدم، هل للشيطان وحواء دور في ذلك؟

أية غواية هذه، ألم يقدر الله لآدم ذلك وهو الذي خلقه؟ هل كان يلقنه درساً في الطاعة وقوة الإرادة؟

ماذا عنا الآن وقد عظم الإثم واستفحلت المعصية؟

هل خلق الله في دواخلنا شجرة أخرى ويمتحننا؟

و "بغداد" ماذا أكلت كي تُعاقب؟ وما شكل الشجرة؟ النخل، التفاح، وهل أخطأ النسغ أم الأوراق؟

شجرة "بغداد" تتغذى الآن على الجثث، على الجرحى والمجلودين وعرق المساجين، المضروبة أعناقهم والشهداء.

هل التفّ الشبح حول الشجرة؟ هل حضر احتضار جذورها؟

ويلك يا "بغداد" شجرتك مجزَّأة، ارفعي الأرض إليكِ واصنعي منها خبزاً للجياع.

يبدو أنّني أكرر الهذيان كلّما اختليت مع نفسي.

 

 

 


مشاهدات 92
الكاتب أحمد كاظم نصيف
أضيف 2025/05/03 - 1:39 AM
آخر تحديث 2025/05/03 - 1:07 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 609 الشهر 2941 الكلي 10996945
الوقت الآن
السبت 2025/5/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير