لوحة "الملائكة الصامتة" للفنان التشكيلي الأمريكي براين كارلسون: الألم عاريًا ومكشوفًا، والفن مرآة خشنة
حميد عقبي
يجتهد الفنان الأمريكي براين كارلسون في مفاجأتنا بعمق إنسانيته وإصراره على أن يكون لفنه موقف واضح في زمنٍ يتآكل فيه الضمير العالمي. في لوحته الجديدة "الملائكة الصامتة"، يواصل براين بناء سرديته البصرية عن الخيانة الكبرى للإنسانية، هذه المرة عبر مشهد يمزج الألم المطلق ببصيصٍ روحيّ من الرغبة إلى الخلاص، كأنه هنا ينادي أهل السماء بعد شعوره بالفشل في نداء أهل الأرض. في نقاشاتي معه حول أعماله، يعترف أنه قليل الحيلة ويشعر أن صوته لا يصل كما ينبغي. يشاهد صور المآسي في فلسطين واليمن ولبنان وغيرها من الدول التي يموت فيها الأطفال والنساء دون أن ينتبه لهم أحد. صور الموت والهلاك تمر في تقارير إخبارية مقتضبة وسريعة أو صور على بعض المواقع، تجد من يتعاطف للحظة ثم ينشغل الناس بحياتهم. براين يسجل ويحتفظ ببعض الصور ثم يعيد بناء مشهده الخاص، رؤيته المشحونة بالألم والغضب. يصبغ قداسة كبيرة على الضحايا، يقدمهم في صورة المسيح وموسى ومريم العذراء والملائكة، ويرى أنهم لا يقلون قداسة عن أقدس المقدسات. نتناول لوحة "الملائكة الصامتة"، وقد تمكن براين من جعلها تهمس لأهل الأرض وأهل السماء معًا.
التركيب البصري: حين يصبح الصمت صرخة
تنفتح اللوحة على مشهد جنائزي مروّع: أجساد أطفال مغطاة بلفافات الكفن، مستلقية في صفوف فوق الأرض، والوجوه شاهدة على اللحظة الأخيرة بين الحياة والموت، لحظات ما بعد الموت. يسدل الموت ستائره على بعضهم ويمد بيديه لينزع أرواح البقية. في هذه اللوحة لا يقدم براين جثثًا هامدة، كأنه يضخ في وجوههم حياةً مشتعلة بالصمت، كمن يسلمهم إلى الملائكة ويدعوها أن تعوضهم عن كل لحظة خوف وألم وظلم.
تُحلق حمائم بيضاء فوقهم، جناحاتها ممدودة بقوة، كأنها تسعى لانتشال الأرواح من بين الأنقاض. الحمائم هنا تلعب دورًا رسوليًا، تمثل العبور من الألم الدنيوي إلى أمنية أن يكون فعلاً يوجد عزاء سماوي وفردوس نعيم خاصة للمظلومين، خاصة من الأطفال والنساء. الحمائم كأنها علامة استفهام وليست خبرًا يقينيًا أو مواساة للضحايا ولضمائرنا كي تستريح.
التكوين: المعاناة الجماعية والانتقال الروحي
التكوين البصري للوحة نشعر أنه محكم بشكل مدروس. براين يضع الأجساد في مركز محاط بسواد ثقيل، يمكن فهمه على أنه رمز للعزلة والموت، لكن حركة الحمائم الديناميكية التصاعدية توحي برحلة صامتة نحو عالم آخر.
هذه الثنائية بين الثقل الأرضي (الجثث) والخفة السماوية (الحمائم) تُبرز جانبًا من الفكرة الجوهرية للوحة: بين القتل الوحشي والحلم بالخلاص الإنساني، هناك دومًا صمتٌ يفصلنا عن الفعل، عن الصراخ، عن نجدة الغارقين.
الألوان: تجاور الموت والنقاء
براين يستخدم كما في العديد من أعماله ألوانًا قاتمة ومُطفأة للجثث والخلفية، مع تدرجات من الرمادي، الأزرق الداكن، والأخضر الباهت. لم يجعل لون الأجساد أبيضًا ناصعًا كأنه يريد هدم أي لمسة شاعرية من أجل شعرية فيها الصدمة وربما بعض الشك لكنها تضج بالأسئلة. سنجد الأجساد ملوثة بما يشبه الطين أو غبار الانفجارات، ما حدث ويحدث في هذه المدن المنكوبة ليس موتًا بمعنى قضاء وقدر، لكنه أكثر بشاعة من أي وصف.
نتأمل ونتلمس أن الحمائم بيضاء بشكل شبه ساطع، لكن بياضها أيضًا ليس مثاليًا، كأنه أشبه بالبياض المخدوش، المشوب بالدماء والرماد، كما لو أن حتى الرموز الروحية لم تسلم من أهوال القتل.
نجد أننا أمام هذا الصراع اللوني بين النقاء والدمار، والذي تمكن الفنان بواسطته من أن يخلق توترًا بصريًا مستمرًا. نقع في شكل شعري يمنع المتلقي من الاستسلام لمشهد الحزن التقليدي، ويدفعه إلى التفكير في أسباب هذا الموت وبرحلة هؤلاء ما بعد هذا الموت.
الملامس وتقنية الفرشاة: الجرح المفتوح
يميل براين كارلسون إلى ضربات الفرشاة العنيفة، الخشنة، المتقطعة، كما لو أنه يريد أن ينقل تفتت الأجساد والروح في آن واحد. سنلاحظ أن الملامس السميكة صورت تشققات الجراح، ووجوه الأطفال محفورة بخطوط بارزة كأنها نقوش ألم خالد.
يرفض براين تزيين مشاهده؛ لذلك يجردها من أي زينة أو نعومة شاعرية جميلة، ليبقى الألم عاريًا، مكشوفًا كالحقيقة نفسها التي يحاول أن ينقلها.
الرمزية: الملائكة الصامتة أم العالم الأصم؟
اختيار عنوان "Silent Angels" يحمل في طياته نقدًا مزدوجًا وأسئلة كبيرة مفتوحة:
الأطفال الشهداء صاروا "ملائكة صامتة"، هذا الصمت إعلان احتجاج على كل بشاعة الخيانة التي ارتكبها العالم ضدهم.
والملائكة هنا أيضًا كأنها رمز للعالم الأصم، الذي يرى المجازر ولا يحرك ساكنًا.
براين يترك الصمت معلقًا، ثقيلًا، في أغلب أعماله.
الرؤية الأخلاقية والفلسفية: الفن كمرآة مكسورة للعالم
كما في معظم أعماله الأخيرة، يتحاشى براين رسم أحداث بعينها، لكنه ينجح في تحوّيل الألم الفردي إلى أيقونة كونية. الأطفال هنا ليسوا فقط أطفال غزة، بل أطفال اليمن وسوريا وأفريقيا، وحتى الأطفال الذين يموتون في قوارب الموت أو على يد عصابات تهريب المهاجرين؛ كأننا نعيش في عالم أصبحت الطفولة فيه جريمة يعاقب عليها بالموت.
يريد براين أن يذكرنا أن صمتنا على هذه الجرائم يعد تواطؤًا ونفاقًا، كما أنه يرفض تنميق الوجع وتجميله ويرفض بيع الوهم الحالم. يرسم براين ليظل ضميره مستيقظًا وروحه حية.
الخاتمة: لوحة للصلاة والعار معًا
"Silent Angels"
دعوة قاسية للتفكر:
كيف وصلنا إلى هذا الحد من القسوة؟
متى أصبح الأطفال مادة إعلامية عابرة؟
كيف ماتت الملائكة في ضمير هذا العالم؟
براين كارلسون، مرة أخرى، لا يرسم الموتى فقط، بل يرسم العالم الذي يدفنهم تحت أكوام من الصمت والنفاق.
إنها لوحة تُحفر في الوجدان.
Silent Angels by Brian Carlson -2025