الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
خور عبد الله: وثيقة التنازل الصامت

بواسطة azzaman

خور عبد الله: وثيقة التنازل الصامت

 طالب محمد كريم

 

لم تكن قضية خور عبد الله مجرّد نزاع حدودي عابر بين العراق والكويت، بل فصلاً طويلاً من فصول الجغرافيا السياسية الحديثة، تُظهر فيه خرائط السيادة كيف تُرسم أحياناً بالحبر الأممي، وأحياناً بمداد المصالح الكبرى. لقد جُرِّد العراق من منفذه البحري الحيوي الوحيد في ظروف قسرية، ثم عاد اليوم ليطرح ملفه من جديد، وسط أسئلة كبرى عن العدالة، والمواقف، وصمت الدولة.

خور عبد الله ممر مائي يقع في أقصى شمال الخليج العربي، يفصل جزيرتي بوبيان ووربة الكويتيتين عن شبه جزيرة الفاو العراقية. يُعد هذا الخور المنفذ الملاحي الأوحد للعراق على مياه الخليج، إذ تمر من خلاله السفن المتجهة إلى ميناء أم قصر ومشروع ميناء الفاو الكبير. تُقدّر مساحته بنحو ٥٠٠ كيلومتر مربع، يملك العراق منها ما يقارب ٢٢٥ كيلومتراً، أي نحو ٤٩٪، وقد كان تحت السيطرة العراقية الكاملة قبل أن يُعاد ترسيمه دولياً بعد حرب الخليج الثانية.

بعد غزو العراق للكويت عام ١٩٩٠، أصدر مجلس الأمن قرارات متعددة ضد العراق، أبرزها القرار رقم ٨٣٣ لسنة ١٩٩٣، الذي نصّ على ترسيم الحدود بين العراق والكويت براً وبحراً، واعتمد ما أقرّته لجنة تخطيط الحدود التابعة للأمم المتحدة (United Nations Security Council, 1993). وقد صدر القرار بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما جعله ملزماً، وفرض تقسيم خور عبد الله مناصفة تقريباً بين العراق والكويت، استناداً إلى خرائط استعمارية قديمة وخط المنتصف بين اليابسة. في عام ١٩٩٤، وتحت ضغط الحصار الدولي الخانق، وافقت الحكومة العراقية رسمياً على هذا الترسيم، في ظرف لا يعبّر عن إرادة سيادية، بل عن خضوع سياسي اضطراري.

في ٢٩ نيسان ٢٠١٢، وُقّعت اتفاقية “تنظيم الملاحة في خور عبد الله” بين العراق والكويت، وصادق عليها البرلمان العراقي في عام ٢٠١٣ بموجب القانون رقم ٤٢ (وزارة الخارجية العراقية، 2012). كانت الحكومة حينها برئاسة نوري المالكي، واعتُبرت الاتفاقية جزءاً من سياسة “تصفير المشاكل” مع دول الخليج بعد الانسحاب الأميركي.

في عام ٢٠٢٣، قُدِّم طعن أمام المحكمة الاتحادية العليا ضد قانون التصديق على اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله، مستندًا إلى المادة (٦١/رابعًا) من الدستور العراقي، التي تشترط موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب على الاتفاقيات ذات الطابع السيادي. وفي ٤ أيلول من العام نفسه، أصدرت المحكمة قراراً بعدم دستورية القانون، معتبرة أن التصويت عليه لم يحقق النصاب الدستوري المطلوب، ما جعله باطلاً من الناحية القانونية.

أثار القرار ارتياحاً شعبياً، ووجد صدًى واسعاً في الإعلام، حيث اعتُبر بداية لاستعادة الحق العراقي في السيادة البحرية. في المقابل، طعن كل من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، في قرار المحكمة، معتبرين أن الاتفاقية تنظّم الملاحة ولا تمسّ السيادة. بينما التزمت الحكومة الكويتية الصمت، عبّرت التصريحات الدبلوماسية اللاحقة عن قلق حقيقي، معتبرة أن إلغاء الاتفاقية قد يفتح الباب لتوتر حدودي جديد.

تكمن المفارقة المؤلمة في أن العراق، بعد أن دفع ٥٤.٦ مليار دولار كتعويضات للكويت عن غزو ١٩٩٠ (استُقطعت من مبيعات النفط حتى عام ٢٠٢٢)، لم يحصل على أي تعويض دولي بعد غزو ٢٠٠٣ الذي دمّر دولته، ومزّق نسيجه، وسرق ثرواته (United Nations Compensation Commission, 2022). قُتل مئات الآلاف، وتُقدّر بعض الإحصاءات العدد بمليون ضحية. تم تفكيك الجيش، ونهب البنية التحتية، وكل ذلك انطلق من قواعد عسكرية في الكويت. ورغم ذلك، لم تُطالب الحكومة العراقية أيّاً من الدول المشاركة بتعويض، ولم يُرفع أي ملف إلى المحاكم الدولية.

خور عبد الله ليس مجرّد ممر مائي، بل شريان اقتصادي سيادي، تعتمد عليه الموانئ العراقية: أم قصر، وهو المنفذ التجاري الأبرز، والفاو الكبير، مشروع العراق البحري الطموح. وأي إخلال في السيطرة عليه يفتح الباب لتحكّم كويتي غير مباشر في الملاحة العراقية.

إن قضية خور عبد الله لم تعد قضية قانونية فحسب، بل تحوّلت إلى رمز مكدّس بالتنازلات، وجزء من سردية عراقية مأزومة، تُرغم على الاعتذار، لكنها لا تُنصف حين تُسحق. لقد فُرض على العراق أن يدفع ثمناً باهظاً لقرار دكتاتوري، لكنه لم يُنصف بعد أن دُمّر دولياً. وما لم يُفتح هذا الملف في المحافل الدولية مجدداً، وترتفع المطالب الرسمية والشعبية، فسيظل العراق يدفع ثمن أخطائه وأخطاء الآخرين، مرّتين: مرة نتيجة قرارات سلطوية فُرضت باسمه، ومرة لأنه لم يدافع عن نفسه.


مشاهدات 90
الكاتب  طالب محمد كريم
أضيف 2025/05/03 - 1:33 AM
آخر تحديث 2025/05/03 - 1:07 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 603 الشهر 2935 الكلي 10996939
الوقت الآن
السبت 2025/5/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير